فنيات

حرب 6 أكتوبر.. رواية من نوع خاص

في زمن تكاثُرِ الأعمال التي يقال إنها روائية في اللغة العربية، وانتشارها كالفطر، يعرّف عباس جعفر الحسيني عن نفسه بأنه روائي وباحث لبناني من بلدة النميرية، قضاء النبطية (جنوب لبنان). ويضيف أن عدداً من أعماله تُرجم إلى لغات أجنبية. ورد ذلك على غلاف كتاب جديد صدر له عن دار «المصور العربي» في بيروت، تحت عنوان «26 ساعة بنك أوف أميركا»، وتحت العنوان مباشرة ترد كلمة «رواية».

والحق أن هذا الكتاب هو رواية من نوع خاص جدّاً يمزج بين الوثائقية والشهادات والسِّيَر وجمع المعلومات من الصحف عن حادثة شهيرة حصلت في بيروت في 18 اكتوبر عام 1973 أثناء حرب اكتوبر أو «يوم الغفران» وفق التسمية الاسرائيلية، التي بدأت في 6 أكتوبر باقتحام الجيش المصري خط بارليف الاسرائيلي على ضفة قناة السويس الشرقية.

منصة إعلامية
الحادثة البيروتية هي اقتحام مجموعة مسلحة يسارية تسمي نفسها «الحركة الثورية الاشتراكية اللبنانية» «بنك أوف أميركا» في ساحة رياض الصلح في بيروت واحتجازها ما لا يقل عن ثلاثين رهينة لمدة 26 ساعة داخل مبنى المصرف. كانت العملية هذه الأولى من نوعها في لبنان والعالم العربي وهدفها استغلال حرب اكتوبر كمنصة اعلامية لإشهار هذه المنظمة اليسارية الصغيرة المرتبطة بالمقاومة الفلسطينية. فخلال احتجازها الرهائن طلبت المنظمة تحويل ملايين الدولارات من المصرف الأميركي لمصلحة المجهود الحربي العربي الى جانب مطالبتها بتحرير عدد كبير من أعضائها من السجون اللبنانية، بعد ما كان قُبض عليهم باعمال جرمية سابقة.
يستهل الحسيني روايته هذه على النحو التالي: نزل أربعة شبان من سيارة أجرة مرسيدس 190 خضراء اللون في ساحة رياض الصلح، توجهوا بخفر نحو مبنى «بنك أوف أميركا» (..) يرتدي علي بنطالاً بنياً نوع «تشارلستون» الواسع الرجلين وقميصاً رمادياً بياقة عريضة، وفوق القميص جاكيت أسود يخبّئ تحته رشاشاً حربياً من نوع بورسعيد (..) وكان علي الأكبر سنّاً بين المسلحين الأربعة».
وعليّ هذا هو علي شعيب قائد العملية المذكورة وهو من بلدة «الشرقية» المحاذية لـ «النميرية» بلدة الكاتب. وعلي شعيب هو نفسه الذي كتب له الشاعر اللبناني عباس بيضون قصيدة شهيرة بعد مقتله في العملية، وغنى القصيدة التي يقول مطلعها «يا علي، نحن أهل الجنوب، حفاة المدن، نروي سيرتك على أصفى البرك والأودية» (الفنان مارسيل خليفة).
يتتبع الكاتب ما حصل خلال هذه العملية على مدى 26 ساعة دقيقة بدقيقة. ثم يستعيد بطريقة «الفلاش باك» سير الشبان الأربعة المشاركين في العملية وملابسات انتمائهم الى المنظمة الثورية الاشتراكية اللبنانية، وصلاتهم الحزبية السابقة وعلاقاتهم بالمنظمات الفلسطينية المسلحة.
وتطلعنا قراءة هذا الكتاب وثائقيا على ما كان يحصل من حوادث في لبنان ما بين 1968 و1975. على سبيل المثال: في بداية شهر ديسمبر 1969 شنّت اسرائيل عدواناً على القرى الجنوبية الحدودية في لبنان فسقط عدد من الضحايا بينهم البعثي أمين سعد، رفيق ابراهيم حطيط أحد مؤسسي المنظمة الاشتراكية الثورية، إلى جانب مرشد شبو من قرية برجا. على اثرها اتخذت الحركة الثورية قرارها بالرد على العدوان الإسرائيلي، فوضعت ليل 18 يناير 1970 متفجّرة من نوع «تي. ان. تي.» خلف مدرسة «الأليانس» اليهودية في بيروت. وفي 9 فبراير 1970 وضع مرشد شبّو ورفاقه 7 كيلو غرامات ونصف الكيلو من الديناميت قرب مركز «الشرق الاوسط للدراسات العربية» في «شملان» قضاء عاليه، الذي يشتبه التنظيم في أنه معهد لتخريج الجواسيس البريطانيين. وفي نهاية الشهر نفسه ألقيت متفجّرة ليلاً أمام مبنى السفارة الأميركية في عين المريسة. هذا غيض من فيض العمليات التي كانت تحدث في بيروت آنذاك. اما من يقوم بهذه العمليات فمنظمات كثيرة تشبه المنظمة الثورية الاشتراكية وجميعها على صلة بالمنظمات الفلسطينية المسلحة. وكانت عملية «بنك أوف أميركا» تتويجا لمثل هذه العمليات الثورية.

الرد على العملية
هزّت العملية لبنان إعلاماً وحكومة وسفراء. وقد شارك السفيران الأميركي والجزائري وأحد قادة المقاومة الفلسطينية وجميع اعضاء الحكومة اللبنانية وصولاً الى رئاسة الجمهورية في التفاوض مع الخاطفين، وذلك بعدما هددوا بأنهم سوف يبدأون بقتل رهينة كل ساعة ورميها من الطبقة الرابعة من المصرف، في حال لم تنفذ مطالبهم. كان هدف المفاوضين تمديد الوقت وكسبه لوضع خطة لاقتحام المصرف وتحرير الرهائن. وهذا ما حدث بعد 26 في عملية، أسفرت عن سقوط ضحية أميركية من الرهائن واثنين من الخاطفين وأحد رجال الأمن. في حين قبض على منفذّي العملية الآخرين.
يتساءل قارئ هذا الكتاب عن المجهود الكبير الذي بذله كاتبه في جمع الوثائق والشهادات الغزيرة؛ لكن المحبط هو كل ما عدا ذلك لغةً ومخيلةً وأسلوباً سردياً إضافة إلى تبني الكاتب، بعد نحو نصف قرن، الخطاب الثوري للخاطفين بتفاصيله، وتبنيه خرافتهم عن أنفسهم. لكن هذا كله لا يُفقد القارئ متعة القراءة؛ إذ إن الكتاب يبيّن لنا مقدمات الحرب الأهلية اللبنانية التي انطلقت شرارتها الأولى منذ عام 1969 من دون أن يدري اللبنانيون بذلك. فعمليات خطف الطائرات، والسطو على المصارف والمؤسسات، وخطف الأشخاص، ووضع المتفجرات هنا وهناك.. كانت تنتشر بغزارة طوال النصف الأول من عقد السبعينات، في وقت كان اللبنانيون منخرطين في زمن زهو البحبوحة والرخاء. ومن فوائد هذا الكتاب أيضا اننا نجد فيه ملحقاً تعريفياً وافياً بكل من ورد اسمه فيه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق