محليات

صحافيون ضد الفساد

يعملون في شكل «عصابة» عابرة للقارات

أدى الانتشار الرهيب لظاهرة الفساد في العالم، إلى ظهور نوع جديد من التحقيقات الصحافية، رحّبت به كبريات الصحف، التي لا تزال مكافحة الفساد قضيتها الجوهرية، والمصلحة العامة تحتل صدارة أولوياتها. لقد اكتشف الصحافيون في مؤسسات صحافية عدة في العالم خلال السنوات الأخيرة، أن عملهم الفردي لا يحرز النتائج المرجوة، التي تُمكّن من قطع دابر الفساد، وتبيّن لهم أن التنظيم والعمل الجماعي، يمكنهما أن يزلزلا حكومات، ويفككا عصابات، لذلك اهتدوا الى فكرة انجاز تحقيقات جماعية تُنشر في يوم واحد ويعكف على إنجازها عصبة من الصحافيين.
في السادس عشر من أبريل الماضي، احتلت قضية «دافن» صدر الصفحة الأولى في كل من «الغارديان» و«لوموند و«سادوتش» «زيتونغ» و«ريبوبليكا» و«نيويورك تايمز»… فما هذه القضية ولم أجمعت هذه الصحف الكبيرة على التطرق لها في يوم واحد؟!
لقد اعتقد من فخّخوا سيارة الصحافية المالطية دافن كاروانا غاليزيا التي كشفت تورط سياسيين في بلادها في قضايا فساد، أن اغتيالها في 16 اكتوبر الماضي، سيضع حدا لكتاباتها التي كانت تقضّ مضجعهم، لكن ما حصل لاحقا كان امرا غير مسبوق في القارة العجوز. فرغم مرور ستة أشهر على وفاتها عاد اسم الصحافية إلى الظهور في كل العالم، بعد أن تجند حوالي 50 صحافيا لاستكمال التحقيقات التي باشرتها دافن قبل اغتيالها.
شكل هؤلاء الصحافيون جيشا في الظل، وانكبوا يعملون ليل نهار، يتفحصون ملفات ورسائل بريدية وقوائم لجوازات سفر مالطية تم بيعها، علاوة على وثائق سرية تخص ملف الطاقة وتهريب النفط في مالطا.. باختصار لقد أعاد هؤلاء فتح كل الملفات التي كانت تكتب عنها دافن في مدونتها او تقول بأنها قد باشرتها.
هذا التحرك الصحافي هو الأول من نوعه الذي تنظمه «شبكة القصص الممنوعة» وهي رسالة قوية لكل أولئك الذين يتربصون بحرية الصحافة أو يحاولون انتهاكها باي وسيلة. ويقول الصحافي لوران ريشار أحد مؤسسي الشبكة لمجلة ليكسبرس الفرنسية: «على الفاسدين أن يدركوا أن الرسالة ستصل، وستصل قوية سواء أقُتل الصحافي أم سُجن أم نُفي خارج وطنه».
كان هذا المشروع يشغل بال ريشار منذ 7 يناير 2015، حيث كان أول من دخل مقرات الصحيفة الفرنسية الساخرة «شارلي إيبدو» بعد حادثة الاعتداء على صحافييها، كونه يقيم في البناية ذاتها وسمح له ذلك بالتعرف على صحافيين أجانب ومحليين تواصلوا معه، ما شجعه على اقتحام عالم التحقيقات والبدء في تشكيل شبكة علاقات تقاوم تلك التي ينسجها الطغاة أو المافيا او الشركات المتعددة الجنسيات.

تحقيقات استثنائية
لم تحمل كل التحقيقات الجماعية التي أجراها صحافيون عبر العالم تلك المشاعر التي حملها «مشروع دافن»، ذلك أن الامر يتعلّق بصحافية مغدورة، قُتلت في حادثة تفجير غير مسبوقة في الاتحاد الأوروبي. يتذكّر معظمنا التحقيقات التي نشرت بين 2013 و2017 حول التهرّب الضريبي «أوفشور ليكس» و«لوكس ليكس» و«سويس ليكس» و«بنما بيبرز» التي تُوجت جميعها بجائزة البولايتزر. في هذه التحقيقات كانت هناك دوما جهة تقف وراء المشروع مثل الكونسورتيوم الدولي للصحافيين الاستقصائيين، وهي منظمة مقرها واشنطن، وأسسها تشارلز لويس بعد أن غادر برنامج 60 دقيقة الشهير الذي تبثه قناة «سي بي إس». وفي مقابلة مع مجلة «بوليتيكو» في 2014، قال تشارلز لويس «حلمي هو أن نصل الى الصحافة المثالية، وإلى زمن لا يقول لي فيه أحد لا تنجز تحقيقا عن هذا الشخص ولا عن هذه القضية».
ويقول سيرج ميشال الذي كان يشغل في وقت سابق منصب نائب مدير تحرير صحيفة لوموند: «كان الكونسورتيوم الدولي للصحافيين الاستقصائيين يطلب من الصحافيين الأحرار إنجاز تحقيقات كبرى في قضايا مثل الصيد غير القانوني في المحيطات، أو تجارة الأعضاء البشرية، ويضعها مجانا تحت تصرف الصحف التي كانت تترجمها بحسب حاجتها إليها، ولكن مع وصول جيرار رايل الى رئاسة الكونسرتيوم قادما من استراليا وحاملا معه قرصا صلبا لم يكن يملك الوسائل الكفيلة بمعالجته، تم اللجوء الى طريقة عمل جديدة».
في عام 2014، قررت «لوموند» أن تتعامل مع ملف «سويس ليكس» بمفردها بالتعاون مع مراسليها في الخارج، وذلك بعد أن حصلت على وثائق القضية، ولكنها لم تصمد طويلا، وبعد فترة قصيرة ايضا تمكنت هذه الصحافة التشاركية الجديدة من فرض نفسها والانتصار على التردد الذي كانت يتملك «الغارديان» و«نيويورك تايمز»، اللتين تمكنتا أخيراً معا من الكشف عن تفاصيل فضيحة «كامبريج أناليتيكا».

طريقة العمل
وتتفاوت أعداد الصحف والصحافيين المشاركين في مثل هذه التحقيقات. فعلى سبيل المثال، حققت عشر صحف عن «دبلوماسية الكافيار» التي تقودها أذربيجان في أوروبا، و12 صحيفة عن فضائح كرة القدم، فيما تجند 400 صحافي للتحقيق في قضية بنما «بيبرز» ثم «باراديز بيبرز» عن التهرب الضريبي.
وعادة ما تنطلق هذه التحقيقات باجتماع يوزع فيه العمل وتحدد فيه المواعيد كذلك، فيما يتم الاتفاق على النشر في يوم واحد مع التزام الجميع بسرية العمل. وتقول الصحافية الفرنسية آن ميشال التي تشارك في مثل هذه التحقيقات الجماعية منذ 2013 في مقابلة مع مجلة ليكسبرس: حين نركب على متن السفينة ونبدأ العمل، ننسى نهائيا المنافسة، وقد يستغرق عملنا وسفرنا أشهراً ومرات سنة في حالة «بنما بيبرز».
وأما الصحافي فابريس عرفي مسؤول التحقيقات في موقع «ميديا بارت»، فقال متحدثا عن قضية «فوتبول ليكس»: نحن نقوم باستنطاق جميع الوثائق مثلما فعلنا في فوتبول ليكس، حيث فحصنا 18 مليون وثيقة في صيغة «بي دي إف» و«واتس آب» و«إيميلات ووردس» و«إكسل».. يبقى المحققون على اتصال ببعضهم عن طريق منتديات مؤمنة أو عن طريق مؤتمر عبر الفيديو.
وتقول آن ميشال إنها تقدمت كثيرا في عملها في «قضية دافن» برفقة زميلها في «لوموند» جان بابتيس شاستون. وتضيف: كنا نتراسل باستمرار.. فخلال هذه التحقيقات نعاني كثيرا من الضغط والتوتر والدوار أيضا، وحين نصل الى معلومات حساسة جدا عن الدول أو الشبكات المافياوية نعمل معا.
ويتقاسم الصحافيون اثناء انجاز هذه التحقيقات كل شيء، من الشكوك إلى أرقام الهاتف، كما يطرحون اسئلة على بعضهم مثل «إلى أين سنصل؟ ماذا يقول محاميكم؟.. لكن قبل نشر هذا التحقيقات، يقوم فريق مشترك بتنقيحها وتصحيحها وإضافة تعديلات عليها إن لزم الامر، غير أن لكل صحيفة حرة طريقة رواية الموضوع وطريقة تقديمه وعرض ما يهمه جمهورها منه، ففي قضية «فوتبول ليكس» مثلاً، اهتمت الصحافة الفرنسية برونالدو ونادي «باري سان جيرمان». أما الصحافة الإنكليزية، فقد اهتمت بالجوانب التي تخص ديفيد بيكهام.
ووفق آن ميشال، فإن يوم نشر التحقيق يشكّل حدثاً كبيراً في هذا النوع من التحقيقات. وتضيف: «يمكن أن يتمكن البعض من وأد قضية في بلد ما، ولكنهم لن يستطيعوا فعل الشيء نفسه في 12 بلداً آخر». فمحامو ديفيد بيكهام مثلاً تمكنوا من منع «صنداي تايمز» من نشر تحقيق يكشف تورطه في استغلال اليونيسيف لمآربه الخاصة، بدعوى أنها انتهاك للحياة الخاصة. ويقول فابريس عرفي إن «صنداي تايمز» انهزمت، ولكن بقية الصحف لم تخضع لأي تحرش أو تهديد، وهكذا ظهر التحقيق في كل العالم ما عدا بريطانيا، إلى أن نقلته صحيفة «الصن» عن «ميديابارت».
وتتحمّل كُبريات الصحف تكاليف هذه التحقيقات التي تجريها لمواجهة ظاهرة الفساد لفترات قد تستمر شهوراً، كما تتحمل أيضاً عواقب قضائية، غير أن هيئات، مثل «منظمة القصص الممنوعة» أو كونسرتيوم الصحافيين الاستقصائيين، في حاجة إلى دعم مالي لتنسيق عملياتها، ذلك أننا نعيش فعلاً عصر صحافة جديدة، رغم كل ما تعيشه المهنة من أزمات دفعتها إلى تقليص عدد صحافييها وصفحاتها، فالصحافة التقليدية وحدها باتت السد المنيع الذي يحظى بالمصداقية في مواجهة الأخبار الكاذبة. لذا، يبدو جلياً أن الصحافة لم تمت، ولكنها تعيد اكتشاف نفسها، وما يمكن أن تحققه في خضم كل هذه التطورات التكنولوجية والتدفق الهائل للمعلومات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق