محليات

المقاهي الشعبية .. الكويتيون مازالوا يحنون إلى الماضي

يعتبر المقهى في قديم الزمان الفضاء الترفيهي الوحيد الذي يؤمّه العمال والتجار، حيث يتبادلون الحديث أو يعقدون الصفقات التجارية على أنغام الفونوغراف وهم يترشفون الشاي والقهوة، ولا يزال الكويتيون متعلقين بهذه العادة رغم الحداثة والمقاهي الراقية، إلّا أنهم يفضلون المقاهي الشعبية التي يجدون فيها راحتهم، ويتذكرون فيها أيامهم الجميلة.
لا يزال وجدان الكويتيين يحتفظ بالحنين إلى الماضي وإلى كل ما بقي منه من معالم وأماكن، أبرزها المقاهي الشعبية التي يؤمّها المواطنون في أوقات فراغهم.
والمقهى هو المكان الذي كان يقصده التجار ونواخذة الغوص والأهالي لتبادل الأحاديث وإجراء معاملاتهم التجارية واستقبال الضيوف القادمين من الخليج العربي بهدف العمل التجاري.
وعادة ما كانت المقاهي قبل اكتشاف النفط في مدينة الكويت ملتقى للصيادين والغواصين يتداولون فيها شؤون أعمالهم، ويشتكون لبعضهم البعض ظروف الحياة الصعبة التي كانوا يعانون منها.
وعن تاريخ المقاهي الشعبية في الكويت قديما يقول الباحث في التراث الكويتي محمد جمال لوكالة الأنباء الكويتية (كونا)، إن أغلبية المقاهي آنذاك كانت عبارة عن دكاكين صغيرة أو “عرشان” وهي جمع “عريش”، تفتح أبوابها من الساعة السابعة صباحا إلى العاشرة ليلا وتحتوي على مطبخ صغير يضم موقدا لطبخ الشاي والقهوة، ويوضع فيها عدد من المقاعد الخشبية التي يسع الواحد منها لجلوس ثلاثة إلى أربعة أشخاص، وكراسيّ إضافية خارج المقهى لجلوس الزبائن.
وأضاف جمال أن صاحب القهوة كان يقوم في معظم الأحيان بخدمة زبائنه بنفسه وتقديم القهوة أو الشاي لهم، فيما يوظف عمالا عندما يزداد نسق العمل. وأوضح جمال أن المقاهي كانت في البدايات الأولى تقدم القهوة العربية فقط لكن بعضها بدأ يقدم الشاي بعد دخوله إلى الكويت للمرة الأولى في بداية القرن الـ20 إضافة إلى تدخين “القدو” أي النارجيلة وفيما بعد دخلت المشروبات الغازية.
ولفت إلى أن المقاهي بدأت تتنافس بوضع الفونوغراف لسماع الأغاني، ثمّ تمّ إدخال الراديو لسماع الأغاني والأخبار، وكان بعض رواد المقاهي يتسلون ببعض الألعاب الشعبية مثل الدومينو والدامة ولعبة الورق الشهيرة (الكوت).
وقال جمال، إن كل مقهى يتميز بمرتاديه من مختلف شرائح المجتمع بمعنى أن بعض المقاهي اشتهرت بروادها من أصحاب نفس المهنة الواحدة كالنواخذة أو الطواويش أو البحارة أو التجار أو الشريطية أو الحمارة.
وحافظ الكويتيون في زمننا الحالي على المقاهي الشعبية بصيغتها القديمة مما يعدّ دليلا مهمّا وواقعيا على دور تلك المقاهي اجتماعيا وثقافيا وتراثيا، وقد تعددت المقاهي وانتشرت في معظم مناطق البلاد.
وتعيد جلسات اليوم في المقاهي التقليدية استذكار معاناة الأجداد وكيف كانوا يقاومون ظروف الصحراء الصعبة في سنوات الجدب والقحط، فيما المحظوظ منهم كان يقوم برحلة صيد اللؤلؤ التي قد تكلفه حياته غرقا.
وجسد المخرج خالد الصديق في فيلم “بس يا بحر”، أول فيلم كويتي أنتج عام 1972، جانبا من الصورة التي كانت قائمة في الكويت آنذاك.
ومن أبرز تلك المقاهي “مقهى قبلة” و”المقهى الشعبي” و”مقهى السالمية” و”مقهى أبوحليفة” و”مقهى الصليبخات” و”مقهى يوم البحار” التي تقع تحت إشراف الدولة، وقد تميّزت بمساهمتها في المحافظة على تقاليد المجتمع وعاداته الأصيلة.
يقول عبدالحميد السالم، إن المقاهي في الكويت وخصوصا القديمة منها “ربما تبدو متواضعة لكنها توفر نوعا من السكينة والهدوء إذ يكفي أن تجلس فيها وتستمع إلى الأغاني الكويتية القديمة لعبدالله فضالة ومحمود الكويتي حتى تشعر وكأنك تعيش في كويت أربعينات القرن الماضي”.
وأضاف السالم، “إننا في هذا المقهى بسوق المباركية، نمضي ساعات جميلة بعيدا عن ضجيج الحياة العصرية أو ما تحمله وسائل الإعلام من نشرات الأخبار القاتمة، لنستمع فقط إلى حكايات أهلنا وإلى نوادر وسوالف قديمة عن أهل الكويت”.
أبوفيصل القلاف (متقاعد) يعتبر المقاهي القديمة “بمنزلة مدارس متنقلة نتبادل فيها الأحاديث حول مظاهر الحياة الاجتماعية المفيدة والمليئة بالدروس والعبر التي يستفيد منها الجميع؛ الصغير قبل الكبير”.
ويقول القلاف، إنه وباقي رواد المقاهي يحرصون “على القدوم إلى سوق المباركية منذ الصباح الباكر لشراء اللحوم والأسماك والخضار ووضعها في ثلاجة كبيرة بأحد المقاهي وحينما نهم بالخروج نأخذ لوازمنا.
وذكر، أن المقهى الذي يرتاده “شهد أجمل فترات حياتنا فكنا نأتي إليه منذ أيام شبابنا مع الوالد حتى أننا اعتدنا عليه وعلى رواده وعلى رائحة المكان على وجه الخصوص”.
ويروي عبدالرحمن غنام (مدرس سابق)، كيف أنه اعتاد القدوم إلى سوق المباركية منذ أكثر من أربعين عاما بشكل شبه يومي حتى أنه صار لا يستطيع التخلي عن «استكانة الشاي أم دقمة» التي لم يتغير طعمها عن السابق.
وأضاف غنام أن المقهى الذي يرتاده كان يسمى قديما «قهوة الكبسي» على اسم مالكها حسين الكبسي وقد افتتح في أواخر ثلاثينات القرن الماضي ويسمى حاليا «قهوة الوطن»، “ويمكنني في هذا المقهى أن ألتقي بأصدقائي منذ أيام مدرسة المباركية ونجتمع هنا عقب صلاة الفجر ومع ساعات الصباح الأولى لشرب «استكانة الشاي» بعد تناولنا «الريوق» او وجبة الإفطار وهي عبارة عن (خبز إيراني وباجلاء ونخي وكبدة) من أحد المطاعم هنا ولا سيما أن المقهى يفتح أبوابه من الساعة الخامسة فجرا حتى العاشرة ليلا”.
وذكر أن المشروبات في المقهى عبارة عن الشاي «باستكانة أم دقمة»، ويقدم الماء في كؤوس «الستيل» القديمة مجانا، مبينا أن المقاهي «أيام زمان» لا تقدم أي نوع للقهوة سواء عربية أو تركية أو أجنبية بل فقط «استكانة» الشاي والزعتر واللومي.
وفي «مقهى الرواد» الذي يعد ثاني أقدم مقهى في الكويت قال أحمد دشتي (متقاعد من شركة النفط منذ 20 عاما) إنه يحرص دائما على التواجد في مقهى الرواد “وكان قديما يسمى قهوة عبدالوهاب البلوشي، وقد أنشئ في أواخر أربعينات القرن الماضي”.
وأضاف دشتي، أنه يجد متعة التسوق في سوق المباركية، إضافة إلى المشي والجلوس في المقاهي القديمة التي مرت عليها العشرات من السنين ولا تزال تحتفظ بنوعية وجودة المشروبات الساخنة. وذكر أنه يمكن للمرء أن يلتقي بمختلف أبناء المجتمع الكويتي بأطيافهم كافة في هذا المكان بعيدا عن أي شكل من أشكال التفرقة بينهم، بل يجلسون معا في مختلف أماكن التجمع بالمباركية.
من جهته قال عامل القهوة حسن صادق “مازالت تحضر القهوة على طريقة الفحم القديمة وتحتفظ بنكهتها الخاصة، لذلك فمن الصعب أن يبدلها الرواد”.
من جانبه، أوضح أحمد العازمي (دلال عقار) أن التجمع الكبير في قهوة الدلالوة “يجعلنا نعيش التراث القديم ونأتي إلى هنا ونتبادل الأحاديث بيننا حول أسعار العقارات والعمارات وموضوعات الديرة وعن الساحة السياسية وأهم الأحداث فيها”.
وقال العازمي إن قهوة الدلالوة تقدم مشروبات ساخنة متنوعة فضلا عن المشروبات الغازية إضافة إلى “القدو” معتبرا ما يميز الجلسات في مقاهي سوق المباركية أنها تجمع جميع الأذواق وتلبّي مختلف الاحتياجات في مكان واحـد.
ولم يقتصر عمل المقاهي الحديثة على تقديم الشاي والقهوة والنارجيلة كما في السابق، بل تطور ليقدم أصنافا من الأطعمة الشعبية الشهيرة في الكويت والحلويات إلى جانب المشروبات التقليدية والمستحدثة.
وتوفر بعض المقاهي الشعبية الحديثة خدمة الـ”واي فاي” وألعاب البلاي ستيشن إلى جانب ألعاب شعبية قديمة كالدامة والدومينو ولعبة الورق أو “الجنجفة” التي مازالت صامدة في وجه الزمن ومتغيرات العولمة، ولها محبوها وروادها ولا سيما من كبار السن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق