فنيات

فواز حداد: دمشق.. مصابي الجميل

أن تكتب عن مدينة يعني أن تتبع أثر التاريخ وتحولات المجتمع ومسارات الإنسان والبنيان، وأن تلتفت إلى تقاطعات الزمن والحدث والذاكرة، وأن تلج إلى حواضن الحكايا ومصائر البشر، وأن تحضر سيرتك الذاتية ضمن هذا المدى المكاني في زمن ما، برؤية خاصة جدا تتجاوز ما يكتبه علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، إنها كتابة ذاتية عن مدينة متعددة الأوجه قد لا يتشابه حولها نصان.
بعض الروائيين كتبوا عن مدن بعينها وأصبحت سيرهم ونتاجاتهم مرتبطة بها،. بعض الكتابات الأخرى عن المدن كانت حقلا من حقول الاستشراق. ولكن تظل المدينة في كل كتابة عنها بأي جنس أدبي أو غيره، ذلك اللغز الذي له ألف حل والفضاء المكاني الذي نصنعه ذهنيا من الواقع والخيال والوجدان.
في هذه الزاوية يروي بعض الكتاب العرب سير مدنهم التي كان بعضها أحيانا فضاء سردهم الروائي.

في الكتابة عن دمشق، قد يخدعنا الياسمين الدمشقي، استثمره الشعر من قبل بكفاءة في التغزل بها، فلم يغفل عن عذب مائها وعليل هوائها، لكن متى كان الشعر يجاري الواقع؟، لهذا جار بجاذبية أكاذيبه على دمشق، لن يبرز اليوم حقيقتها بقدر ما سيصدّر عنها صورة زائفة.. مصداقا على أن أكذب الشعر، أجمله، الا في حال كنا نتكلم عن دمشق أيام زارها أمير الشعراء أحمد شوقي:
دَخَلتُكِ وَالأَصيلُ لَهُ اِئتِلاقٌ
وَوَجهُكِ ضاحِكُ القَسَماتِ طَلقُ
وَتَحتَ جِنانِكِ الأَنهارُ تَجري
وَمِلءُ رُباكِ أَوراقٌ وَوُرْقُ
مع أن أحمد شوقي دخلها بعد نكبتها بالاحتلال الفرنسي، لكن ذاك زمان وهذا زمان، شتان بينهما، لا يجمعهما جامع سوى جنود الاحتلال؛ كان الفرنسيون. أما اليوم، فالروس والأميركان والإيرانيون والأتراك يتقاسمون سوريا، بينما تجوب دمشق الميليشيات المسلحة المذهبية من «زينبيون» و«فاطميون» وكتائب أبي الفضل العباس، إضافة الى حزب الله.
سوق «الحميدية» التاريخي بات مرتعاً للمسلحين ولاطمي صدورهم، يتوعدون الشوام الأمويين بالثأر لقتلة الحسين. الشبيحة بأسلحتهم يتوغلون في حارات دمشق القديمة، ويذرعون شوارعها بسيارات الدفع الرباعي جيئة وذهاباً، تبث أغاني تصدح بمحبة الرئيس. أسواق «الصالحية» و«الحمراء» لم تعد مهوى أفئدة الدمشقيين، أعداد المخبرين تزيد عن اعداد المارة. في أحيائها؛ باب سريجة والقنوات وسوق ساروجة والميدان، ترصد دوريات الأمن، الأزقة والمساجد والمنازل، وأنفاس الأهالي. السواتر الكونكريتية في مداخل الادارات والمؤسسات الحكومية، بدلت اتجاهات المرور، تحرسها ميليشيات الدفاع الوطني. الاذلال على الحواجز المبثوثة في الطرقات، والمداخل المؤدية الى العاصمة، العسكر يفتشون السيارات ويفرضون الخوة على الداخلين والخارجين. صور الرئيس تملأ جدران الشوارع والمكاتب والممرات والدهاليز والأشجار والمعسكرات والسيارات والمحلات، وتزين المعتقلات والسجون، بجميع أوضاعه المدنية والعسكرية، بنظارات وبلا نظارات، مبتسماً وعابساً، أحياناً الى جواره خامنئي وتابعه نصرالله، وأيضاً المنقذ بوتين. مصحوبة بالشعارات الهمجية المهددة بحرق دمشق، ان لم تقبل بسلطة الرئيس المحبوب، وبسلالته إلى الأبد.
مدينة محيرة
تُختصر دمشق اليوم بهذه المشاهد، وإذا كان من أصوات ترافقها، فأصوات راجمات الصواريخ وقنابل الهاون وقصف الطائرات، وهدير الدبابات، وعواصف إطلاق الرصاص في الفضاء، تهلل لاقتحامات الجيش للقرى والأحياء، أو لسقوط مدينة، وربما لتسجيل فريق كرة القدم هدفاً، وطبعاً تأييدا لخطابات الرئيس البطل الذي استدرج الروس والايرانيين وميليشيات مرتزقة لحماية منصبه الموروث.
دمشق عاصمة «سوريا المفيدة»، لم تتشكل بعد. لذلك فلنكتب عن دمشق الأمس التي كانت، وإن بدا الكلام عنها أشبه بالحديث عن مدينة افتراضية لم يعد لها أثر الا في الذاكرة. لا يمكن استعادتها بسهولة، الدخان يحجبها وآلاف الضحايا تبعدها.
دمشق مدينة محيرة للذي يريد أن يتحير، تبدو متحفظة، لديها أسرارها التي لا تبوح بها. بينما للذين يأتون إليها، ويقيمون فيها ويألفونها، سرعان ما ينتمون إليها، ويحافظون عليها، تمنحهم خصوصياتها بسهولة، وتصبح مدينتهم الودودة المنفتحة. فضيلة تعزى الى البشر قبل الحجر.
أما في نظر الغزاة، فمدينة مستباحة. لذلك ليس من الغريب أن تبدو مذعورة، وهذا ليس وليد العقود السابقة فقط، بل ما سبقها من قرون أيضاً، وإذا كانت قد أتقنت التخفي، فلأنها ابتليت بالفاتحين الدمويين القساة. فاعتصمت وراء أسوار من التمويه، يبدو في أسلوب بناء حاراتها وبيوتها. فللحارة باب ضخم يوصد بالترباس والاقفال، ينفتح على أزقة وزواريب ودخلات ضيقة ومتداخلة. كل حارة عبارة عن جزيرة صغيرة، تتصل بالجزر الأخرى نهاراً وتنغلق على سكانها ليلاً. كما للبيت الدمشقي معالمه الشامية: الباب الذي لا يوحي بما خلفه، الدهليز بعتمته الخفيفة، المؤدي إلى باحة الدار الطافحة بالنور، تتوسطها البحرة بنوافيرها المشرئبة تزهو بتناثر ألق الماء تحت أشعة الشمس، حول الباحة جنة الأزهار والورود وأحواض العرائش والأشجار المثمرة. ثم الليوان، تؤطر جداره الزخارف الملونة. القسم التحتاني من البيت يضم؛ القاعة والصاليا، المطبخ، ثم الدرج المؤدي إلى الفوقاني؛ غرف النوم، الفرنكة، ومن ثم السطح. عدا ما يحتويه من دخلجات مثل، الداكونة، بيت المونة، الليوك، الخص.. في كل زاوية ذكرى أو ذكريات، تختزن ما لا يبتذل ولا يباح به.

مسرح للقادمين الجدد
ومن أكثر مظاهر التقاليد الدينية، مواظبة سماع خطبة الجمعة، وحضور صلاة العيدين صباحاً، تعقبها زيارة المقابر بعد الخروج من المساجد، يحمل الأولاد برفقة آبائهم الآس والنخيل، ويقرأون على أرواح أموات العائلة سورة «يس»، تليها طوال أيام العيد معايدات الأقرباء والأهالي. توارى هذا التقليد، فأمواتهم الجدد ما بين شهيد في الجبهات والسجون، وقتلى الخطأ، لم تسمح حتى بمواراتهم التراب، ودفنت جثثهم في مقابر جماعية أو أحرقت.
بعد الاستقلال، أصبحت دمشق مسرحاً يؤمه القادمون من أنحاء سوريا، كي يلعبوا أدوارهم الطموحة على خشباتها، مدينة مفتوحة للمغامرات الطائشة، والوساطات المشبوهة، والتجارات المشروعة وغير المشروعة، يؤمها تجار الصفقات المخزية والعمولات، والسطو على مقدرات الدولة، واحتلال مراكز النفوذ فيها. أما الذين يريدون الاستيلاء على السلطة، فجاؤوا ببدلاتهم الخاكي ودباباتهم ومدافعهم، حالمين بقيادتها نحو المستقبل بالقوة سواء بالمؤامرات أو الانقلابات، كانت سياسة حرق المراحل هي المعتمدة، فحولوا مؤيديهم والمنتفعين منهم الى رجال مخابرات ومخبرين ولصوص ومحتالين.. كان «الشبيحة» آخر طبعة مبتذلة.

قلب العروبة
لا يصح الحديث عن دمشق دونما التذكير بموقعها في المنطقة، لم يطلق عليها «قلب العروبة النابض» عبثاً، أخذت على عاتقها قضايا العرب في النهوض القومي، خاضت معاركها الكبرى؛

البرجوازية والاشتراكية، تحرر المرأة، التطلع الى الديموقراطية، القديم والجديد، الوحدة العربية، وشعلة اليسار، الصراع بين العسكر والأحزاب، وانكسار الأحلام. تحت تأثير هذه التحولات، لجأ اليها مناضلون تعرضوا الى ملاحقات في أوطانهم الأصلية، واعتبروها مدينتهم، وهناك من جاءها لأسباب تجارية، وربما دينية.
استقبلت دمشق أيضاً رجالات السياسة والعلم والأدب، من المدن والأرياف السورية والساحل. كانوا رسل الفكر والخلق الكريم، رموز الحركات القومية والعلمية والثقافية، مثل: بدوي الجبل، عبدالسلام العجيلي، صدقي إسماعيل، وحنا مينة، أنطون مقدسي، محمد الماغوط.. في الحقيقة يصعب حصرهم. لم يأتوا بمنطق الغزاة، حلوا فيها، وقدموا لسوريا أفضل ما لديهم، أحبوا دمشق ودافعوا عنها وشاركوها مصائرها، لعبوا أدواراً عظيمة الشأن، ثقافية وإنسانية واجتماعية، وصنعوا أمجادها الحقيقية.

هي قدري الجليل
صادف أنني كنت دمشقياً، وإذا كنت اعتززت بدمشقيتي، فلأن لا مدينة لي غيرها، كانت دائماً قدري الجليل، ومصابي الجميل الذي لا راد له، ولا أرغب في الخلاص منه. وربما كنت شاهد عيان على ما كانت وما أصبحت، وإذا كانت لديها القدرة على جمع السوريين في داخلها، وانشاء صلة من التآلف بينهم، فلم يتم اعتباطاً، على النقيض من الغزو المدجج بالأسلحة الذي شهدته طوال أربعين عاماً، في الهيمنة على مدينة لا أبواب لها. مشهرين الكراهية والعداء الطبقي، استجروا وراءهم مئات الآلاف، لم يخفوا نواياهم في اخضاع البرجوازية الدمشقية والأهالي بشتى طبقاتهم ومشاربهم، ما أدى الى التنافر بين السوريين، وأدى بالبلاد الى الرزح تحت أربعة احتلالات.
ليست مأساة الدمشقيين، بل السوريين جميعا. المؤلم أن قتل مئات الآلاف وتهجير الملايين، لم يحرض ضمير الموالين العميان على فتح عيونهم الى الجريمة التي ارتكبها النظام من دون أي مبرر معقول، لمجرد أن هناك من طالب بالحرية والكرامة. ينشد النظام صنع بلد آخر على أنقاض سوريا التي مهما اختلفنا حولها، تبقى سوريتنا، نحن من دونها أيتام على مائدة لصوص النهب، شبيحة وعود سلام لن يأتي أبداً.

عصية على الموت
دمشق مدينة منكوبة في الصميم، تقف على حافة الدمار، مواكب النازحين من الأرياف، لم تتوقف منذ سنوات، يحملون متاعهم القليل وينامون على الأرصفة وفي الحدائق والمدارس. الباصات تنقل المهجرين الى الشمال، بعد طردهم من بيوتهم. وسوف يكون تهجير سكان الغوطة، ما يكسر ظهر الدمشقيين. اذ لولا الغوطة لما كانت دمشق.
اليوم قد تبدو دمشق مدينة في النزع الأخير، لكنها عصية على الموت، وفي حال أصبحت «سوريا المفيدة» واقعاً، فدمشق مدينة بلا روح.

أسواق ومقاه

أسواق دمشق التاريخية الشهيرة والمتواضعة؛ «الحميدية» و«البزورية» و«الحريقة» و«تفضلي ياست».. تقاليدها محفوظة لدى النسوة الشاميات، ينزلن ليشترين لوازمهن في جولة تطول من الصباح الى الظهر، تخفف عنهن عناء مشاغل البيت والزوج والأولاد، مشوار عزيز على النفس، أشبه بنزهة، يبرعن في المساومة، قد يشترين أو لا يشترين، تختتم بتناول البوظة في محل «بكداش». وكما للنساء مجالسهن في الصبحيات تعقد بين يوم وآخر، وفق موعد محدد لكل بيت. للرجال أيضاً مجالسهم في المقاهي؛ «علي باشا» في ساحة المرجة للقادمين من الأرياف، قهوة «الديرية» في طلعة جوزة الحدباء، «البرازيل» و«الهافانا» في شارع الفردوس للسياسيين والأدباء ورجالات الأحزاب. «الروضة» في شارع العابد للموظفين والمتقاعدين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق