فنيات

«عماوس» لأليساندرو باريكو: عن الجمال أحدثكم

«هكذا دون علمنا ورثنا عدم القدرة على تحمل الأمر المأساوي، كما القضاء والقدر، للشكل البسيط للدراما، لأننا في منازلنا لم نتقبل واقع الشر، وهذا ما يؤجل، إلى أجل غير مسمى، أي تحرك باتجاه المأساة، ويبطل مفعول الموجة التي لا نهاية لها لدراما قياسية ودائمة».
كم هي عبارة مغوية، والآن بالذات، حيث يكون صوت الألم أعلى من كل قدرة على الاحتمال، إبادة وقمع واستغلال مشكوف، وتحول للبشر إلى ما يشبه «الفيشات» على موائد المقامرة التي لا يمكن وصفها بـ«السياسية» من دون أن نكون قد هجرنا المعنى المتعارف عليه للسياسة. عبارة مغوية لأنها تحدثنا عن النضج: ليس الواقع هو الصادم والعنيف، بل نحن أبناء التربية السيئة التي أعاقتنا عن رؤية «الحقيقة» كما هي، أي «الحقيقة كمأساة».

افتتاحية
في رواية قصيرة كالعادة، زاخرة بالمشاهد التي يمكن لمتابعها على شاشة سينمائية أن يصرخ «أوه»، يقدم أليساندرو باريكو في «عماوس» من خلال عيني مراهق هو واحد من أفراد شلة «لوقا والقديس وبوبي» مسحا واسعا لمفاهيم الحب والجنس والذنب والتضحية والجمال والانتحار والقتل، للدنس وميراث القسوة والاكتئاب. ورغم قصر حجم الرواية فإنها لا تتورع عن تضمين عبارات تصلح للاستشهاد، حتى وإن بدا أنها تحمل وجهة نظر سرعان ما تنقضها الأحداث، أو تشكك بها عبارات أخرى لا تقل تماسكا وقوة.
تفتتح الرواية بعين «الراوي العليم». يأتي اسم «أندريه» في صيغة سؤال: هل رأيت أندريه؟ كما لو كان السؤال هو: هل رأيت الجمال؟ السؤال لوالدها، وهو موجه لأحد أفراد عصبة المراهقين، وبالأحرى راويهم الذي يستكمل سرد الرواية في الفصول التالية. بعد ثوان من إلقائه سؤاله يلقى الأب حتفه بينما يقود سيارته عند إشارة قريبة. مهم جدا أن تلاحظ الوصف الذي يضفيه «باريكو» على هذا الموت، كما لو كان مشهدا احتفاليا بالحياة، ممارسة للطلاقة غير العابئة، ثمنا مقبولا من أجل «الجمال».

في أي مكان نحن؟
المراهقون الأربعة لا يعانون قهرا بالتحديد، بل نوعا من «الإخصاء». بالكاد تلمح الطبقة التي ينتمون إليها «برجوازية صغيرة» بالمصطلح القديم. أين يعيشون؟ لا تحدد الرواية زمانا أو مكانا ولكنك مثلا تستطيع أن تكون واثقا من أنها تحكي عن فترة ما قبل الإنترنت، بل ربما لا تتجاوز حدود منتصف القرن الماضي. هل هو استنتاج مهم؟ هو ربما مقبول فقط بقدر ما يحدثنا عن مدينة صغيرة ما زالت التقاليد الأسرية والكنسية المحافظة تحكمها. مازالت فكرة الخطيئة والخلاص تظلل مصائر فتيانها، على الأقل الذين لا يشبهون عائلة أندريه شبه الأرستوقراطية. لكن ما معنى استعادة بيئة كهذه الآن؟!
برشاقة يختزل «باريكو» حياة الأسرة المحافظة في تفاصيل التكتم، وطرد فكرة الشر عن عالم الصغار، واحتمائهم بالأسرار التي لا تلبث أن تتحول إلى فضائح يعاد احتواؤها مرة أخرى داخل المنظومة نفسها. من الصلاة أمام مائدة الطعام، إلى إنكار اللذة الجسدية (إلا بإضفاء معنى جليل عليها) تمتلئ رؤوس المراهقين الأربعة بأحكام مسبقة على العالم.
حين يسمع لوقا، بالمصادفة، عن مرض والده بالاكتئاب، يشعر باضطراب شامل، ففكرتا المرض والألم منفيتان. «لماذا لم نر في الاكتئاب نوعا من الأناقة؟ وفي الحزن لونا مناسبا للحياة تماما؟» يقول الرواي.
بين العظات الكنسية، والتطوع ببعض الوقت للترويح عن المرضى في أحد المستشفيات، ثم مداعبات الحب الأولى الممتلئة بالتوتر والمحوطة بالنكران يبدو العالم كله تحت الضوء بلا حدث، حتى تحضر أندريه بالطبع.
السيادة على الذات
لا يرفض عالم المدينة الصغير الشر، إنه بالأحرى يعتبره الشذوذ الضروري لإتمام الدورة نفسها. هذا الازدواج الذي يجبن عن أي مراهنة، ويعتبر نفسه واقعا مسلما به وضروريا، هو ما يقود كل واحد من أفراد المجموعة في طريق المقامرة غير المحسوبة، وغير المعززة بأي خبرة أو تجربة، مقامرة الجمال المحض مع «بوبي» العازف، ودعوة الخلاص مع «القديس»، والتضحية مقابل الذنب مع «لوقا». ويبقى راوينا ليمثل ثغرة في الرواية سندرك كم هي مصطنعة، بقدر ما هو مصطنع طابعها «اللاتاريخي»، أو بالأدق الذي يتلاعب فوق التاريخ.
تولد أندريه من الموت. هكذا يريد لها «باريكو»، فترى الوجود في اللحظة نفسها التي تموت فيها أختها غرقا في حوض السباحة، وتتناقل الإشاعات عن إهمال الجدة المتسبب في الحادث. ربما تبدو أندريه خليطا من الجدة الغنية المتغطرسة والطفلة الميتة، فأرستوقراطيتها تشبه خيالات نيتشه عن «السيادة»، إنها سيادة على الذات لا تعرف معنى الغاية، أو الحقيقة. تجرب الانتحار كما تجرب النحافة والجنس والرقص غير معنية بإضفاء أي معنى. بينما ينشغل الفتيان الأربعة على أعتاب كل تجربة جديدة بفكرة «الحقيقة».
لقاء المراهقين الأربعة بأندريه ليس نقطة التحول فحسب، بل انطلاق التساؤلات والتقصي والمحاكمة، لكن على خلفية من تلك «المبادئ» الآخذة في التصدع، والعالم الذي يفتح ذراعيه لكن من دون أن يربت على كتف بيقين. في كل استقصاء لحدث نتبين أننا أمام روايات لا يوثق بها، وتصريحات لا نعرف إن كانت حقيقية أم مختلقة، بما فيها ما يتعلق بقصة أندريه ونسبها الحقيقي.
أندريه هي الأصالة التي لا تحتاج لإثبات، أصالة الذات، وهذا هو المغوي فيها، وفق «باريكو» بالطبع، فالواحد عند نهاية الرواية يكتشف أنه لا يكاد يتعرف إلى هيئتها، ملامح وجهها، فالأصالة هي طلاقة مطلقة. حين تقضي أندريه مع الفتيان، الراوي ولوقا، ليلة حميمة، فهما وحدهما من يفيقان على الصدمة، صدمة الجمال والخواء، لأنهما يسألان عن «المعنى»، بينما تقفز أندريا فوق اللحظات بتنكر فظ.

من الضوء إلى الظل
ثمة مولود منتظر، عقب الليلة المذكورة، هذا الخبر ينتشر عن لسانها ببساطة، من دون أن تكون معنية بتحديد أبيه. يخفق الصديقان حتى في الوصول إليها لمعرفة «من؟». ينتحر لوقا. القديس الذي سعى للجم غواياتها، ينتهي إلى التورط في جريمة قتل، ويسقط بوبي في الإدمان.
كأن باريكو يلخص لنا الموقف الآتي: إن ضياع هؤلاء المراهقين كان بسبب دفعهم إلى العالم «الواضح»، تصورهم عن جمال غير مكتف بذاته، ويمكننا باختزال أكبر أن نقول: عدم اعترافهم بالعدم.
هذه رواية إذن أم أمثولة أخلاقية؟ هي كذلك بالضد من مشروع «باريكو» نفسه: هيا، كونوا ذواتكم، انتصروا للحظات، عيشوا الدراما الحياتية بأرستوقراطية الموشك على الانتحار. لكن أي ذات تلك؟ حتى يعيش نموذج أندريه فإن عليه أن يجعل من الآخرين «موضوعا» لطلاقته. هكذا فإن الوجه الآخر لمشروع «باريكو» يمكن أن يكون مجزرة. والحقيقة أن الرواية لا تقدم أكثر من ذلك، شخص لم نعرف أبدا لماذا الجميع مشغولون به إلا لإغواء الأصالة الزائف؟ وهو تقريبا يعبر فوق حياتهم ليدعها أطلالا وخرابات.

قانون الأصالة
الذكاء في رواية «باريكو» أنها صنعت بعقل قرائها المفترضين، أفراد هذا العالم المفكك، أنها تجعل من عزلتهم قانونا للأصالة، ولتمتعهم الاستهلاكي بأعمق معاني الكلمة، حقا في الحياة، ومن أزمنتهم «السائلة» وفق تعبير زيغمونت باومان، فرصة لمحو كل ذاكرة أو التشكيك بها. لكن ألم يكن انتحار لوقا حقيقيا، ودمار بوبي شيئا ملموسا؟
ستحب السينما رواية كهذه، حافلة بالمشاهد المنقلبة، الجنس المسروق والمكشوف، القتل والانتحار كصورتين لذم فكرة الخلاص. الاستقصاء شبه البوليسي للحقيقة. قصة النضوج الذي لا يفضي إلى شيء، والمعرفة المؤسسة على العدم.
الرواية من منشورات «دال» بترجمة راغدة خوري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق