فنيات

شيرلي جاكسون وأوهام المدنية: كلنا نمسك بالأحجار

كتبت شيرلي جاكسون قصتها «اللوتري» في يونيو 1948، ونشرت في ملحق صحيفة «ذي نيويوركر» في ملحقها الأسبوعي في الثامن والعشرين من الشهر نفسه، لتحقق على الفور ردود أفعال شديدة التباين، أغلبها كان سلبيا، على الرغم من أنها وصفت بعد ذلك بأنها واحدة من أشهر وأنجح القصص وأكثرها تأثيرا في تاريخ الأدب الأميركي.
خلال الأيام التالية تلقى بريد الملحق أكبر كم من الرسائل في تاريخه، معظمها كان من مشتركين غاضبين كانوا يرغبون في قطع اشتراكاتهم، بخلاف رسائل من قراء انتابهم الفضول لمعرفة إذا كانت القصة خيالا أم سردا لوقائع حقيقية عن طقس وحشي لا يزال يمارس في بعض مناطق البلاد، لدرجة أن البعض عرض بالفعل القيام بجولة سياحية للتعرف على المكان الذي جرت فيه الأحداث حال كونها جرت بالفعل، ومشاهدة طقس إجراء القرعة. بالإضافة إلى جانب كبير من القراء كانوا يريدون معرفة المغزى من القصة.

في كتابها «السيرة الذاتية لقصة» المنشور بعد وفاتها تتحدث شيرلي جاكسون (1916 – 1965) عن انطباعها بشأن فيضان الرسائل التي كتبها القراء تعليقا على القصة قائلة «أحد الجوانب الأكثر رعبا في نشر القصص والكتب، هو التحقق من أنها سوف تقرأ، وسوف تقرأ من قبل غرباء». وتعلق أيضا «من هذه الرسائل تكون لدي حكم بأن هؤلاء الناس الذين يقرأون القصص سذج، وقحون، وغالبا جهلة، ويسيطر عليهم خوف فظيع من التعرض للخداع».
عن العنف
تدور أحداث اللوتري في قرية يبلغ تعداد سكانها ثلاثمئة نسمة في الـ27 من يونيو 1948. بناء على اقتراح من الناشر غيرت شيرلي جاكسون التاريخ لكي يتوافق مع تاريخ نشر القصة. يجتمع سكان القرية في الساحة لإجراء القرعة بين جميع الحاضرين. إنها قرعة خاصة جدا، لن يكتشف الغرض منها حتى نهاية القصة. وعلى الرغم من أن سكان القرية كانوا قد نسوا الطقس وفقدوا سره الأصلي، كانوا ما زالوا يتذكرون أنه يجب استخدام أحجار. وفقا لتقليد يعود إلى السكان الأوائل، يقتل من تقع عليه القرعة رميا بالحجارة من قبل باقي أبناء العشيرة، وكان يشترك في الرجم حتى أفراد أسرته.
أما فيما يتعلق بمغزى القصة، فقد جاءت إجابة شيرلي جاكسون واضحة للغاية من خلال التعليق الذي أرسلته إلى صحيفة سان فرنسيسكو كرونيكل، بعد عام من نشر القصة «اتصور، وكنت آمل أن نقل تقليدا قديما يتسم بكل هذا القدر من الوحشية إلى الحاضر، وبين أبناء بلدتي، سوف يصيب قراء القصة بصدمة بسبب التصوير المأسوي للعنف اللامبرر وانعدام الإنسانية المطلق في حياة هؤلاء الناس».
بداية الفكرة
كانت شيرلي جاكسون تعيش في نورث بننغتون، فرمونت. ومن ثم يجدر التساؤل عن العنف اللا مبرر وانعدام الإنسانية المطلق الذي لاحظته في بيئتها المحيطة، لدرجة دفعتها لكتابة قصة مثل «اللوتري»؟ ما الشرارة التي أشعلت الإلهام في خيالها؟ تحكي الكاتبة بنفسها عن تلك اللحظة في كتاب «السيرة الذاتية لقصة» قائلة:
«جاءتني الفكرة حينما كنت أدفع عربة طفلتي على منحدر الطريق الصاعد- كان، مثلما أقول، ذات صباح يوم شديد الحرارة، وكان المنحدر وعرا، وكنت قد وضعت مشتريات اليوم إلى جوار ابنتي في العربة- وربما كان مجهود صعود الخمسين مترا الأخيرة قد شحذ خيالي لكتابة القصة؛ على أية حال كانت الفكرة قد اختمرت في ذهني بوضوح عندما وضعت طفلتي في حجرتها والخضروات المجمدة في البراد، وحينما شرعت في كتابة القصة وجدتها تتدفق بسرعة ويسر، من البداية إلى النهاية بلا توقف.
وإذا تأملنا في هذا الوصف، يتضح أن هذا الإلهام المفاجئ كان مجرد تجلٍ فردي للعبقرية، حيث تؤكد صحافية ذي نيويوركر، روث فرانكلين، كاتبة السيرة الذاتية لقصة: خطابات قصة اللوتري»، أن شيرلي نفسها اعترفت بوجود منشأ آخر لقصتها: «بعد تلقيها خطاب إشادة من أستاذها بالجامعة هـ. و. هرنغتون، ردت عليه قائلة إن فكرة القصة طرأت على بالها أثناء فصل الأدب الشعبي الذي كانت تتلقاه على يديه».
وقائع يومية
من المحتمل أن يكون التفسيران حقيقيين. تقديم شخص كبش فداء أو قربان يعد تقليدا معروفا لدى كثير من الثقافات، ومن ثم فإن تجليات هذا الطقس، سواء قديما أو حديثا، يجب أن تكون لا محالة جزءا من ذلك الفصل الدراسي عن الفلكلور. ويبدو أن المناقشات السابقة حول الموضوع، أطلقت من دون أدنى شك العنان لخيال شيرلي جاكسون، ذلك الصباح من شهر يونيو. على الرغم من ذلك، فإن لحظة الإلهام الإبداعي، كانت أيضا مرتبطة بهاجس متسلط على شيرلي جاكسون، كما يتجلى بوضوح من اختيارها لفصل الفلكلور تحديدا، ومثلما يتضح من تحليل حالات أخرى مشابهة.
بسؤال شيرلي جاكسون عن مصدر الإلهام في أفكارها، علقت في كتاب «خبرات وخيال»، عام 1958، قائلة «تستند القصص إلى وقائع تحدث بصورة يومية، فضلا عن المشاعر، وأي كاتب سيحاول الإجابة عن هذا الأمر، سيجد نفسه لا محالة يستعرض، بعضا من تفاصيل قصة حياته شخصيا. هذا النقل للتجربة داخل الخيال القصصي لا ينتمي لتيار الوعي، بل هو من جانب نوع من الاعتراف، ومن جانب آخر بدافع التحليل.
بالبحث في قصة حياة شيرلي جاكسون، عندما كتبت قصة اللوتري، نجد أنها في ذلك الوقت كانت متزوجة ستانلي إدغار هيمان، وكان يهوديا. وفي عام 1948 لم تكن قد مرت سوى بضع سنوات على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما تخللها من أهوال تعرض لها اليهود على يد النازي. صحيح أن النازي تعرض للهزيمة، إلا أن العداء للسامية كان شعورا متفشيا بين ملايين الأميركيين، تكفي الإشارة إلى موقف فورد من اليهود وتعهداته التي قطعها للنازي.
أوقات عصيبة
عاشت أسرة شيرلي جاكسون أوقاتا عصيبة بسبب هذه المعضلة، وبسبب طباعها غير المتوافقة إلى حد بعيد مع عادات جيرانها. يذكر أن أحد أصدقائها ذكر أنها اخبرته ذات مرة أن «اللوتري» قصة تتناول بصورة غير مباشرة معاداة السامية، وهو ما لم تؤكده الكاتبة مطلقا. إلا أنها كتبت في «التجربة والخيال القصصي»، تعليقا على النقد التحليلي للقصة من جانب إحدى طالباتها، عاقدة مقارنة بين قرعة أجريت على لحاف بديع مشغول يدويا، ومدى التشابه بين هذه الواقعة وقصة اللوتري، مبرزة الملاحظات التالية على النساء اللاتي شاركن في القرعة:
«سأظل أطلق عليهن نساء القرية، وهذا بالمناسبة لا يعني أنهن بدائيات، أو أميات، أو ينقصهن الرقي؛ بل أتصورهن مجموعة شديدة التقارب بعضهن من بعض، منكبات على مشاغلهن الشخصية ويكنن العداء الشديد للأغراب، مثل أية واحدة منا».
لا يوجد أي شخص غريب سواء في قصة اللوتري أو قصة الطالبة، ومع ذلك، فالجميع الذين يعرف بعضهم بعضا منذ الأزل، غرباء فيما بينهم وبالنسبة لأنفسهم. البطل في «اللوتري» المجموعة التي تفرض نفسها كحقيقة واقعة تشمل جميع أفرادها، بصورة تسحق فرديتهم، مقابل شعور بالانتماء إلى قدر مشترك. هذا القدر يتجلى في طقس الجريمة التي يرتكبونها من خلال قرعة اللوتري المرعبة. من خلال الشعور المشترك بالذنب، تتأكد المجموعة مرة أخرى ككيان للبقاء على قيد الحياة. في هذه الآلية المروعة يكمن اعتراف الكاتبة وتحليلها عبر مرآة الأسطورة، لسلوكيات متقاربة، ولهذا بالتحديد تبدو مرعبة. وهكذا تبرهن شيرلي جاكسون بيقين تام وبمنتهى القسوة أنه تحت طبقة التحضر البراقة التي تغلف علاقاتنا الاجتماعية، تكمن أنياب حيوانات متعطشة للدماء، حيوانات شديدة الشبه بنا بشكل مخيف تخبئ طباعها المرعبة وراء ادعاءات التطير والخرافات، بينما يمسك كل منها للآخر بحجر يريد مع الجماعة أن يرجمه إذا خرجت القرعة عليه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق