فنيات

رواية «مذكرات جسد».. الجميع يتحدثون عن أشياء أخرى

«أريد كتابة مذكرات جسدي لأن الجميع يتحدثون عن أشياء أخرى».. هذه العبارة في الصفحات الأولى من رواية «مذكرات جسد» للروائي دانييل بناك أشبه بحجر في بركة. فالعبارة لا تتحدث فقط عن رغبة الروائي أو «صاحب المذكرات» في تدوين ما يتصل بجسده، ولكن عن معنى الكتابة عن الجسد، ما دام الآخرون، أو الجميع وفق تعبيره، يخطئون الهدف، وبينما يتصورون أنهم يكتبون عن أجسادهم إنما يعنون أشياء أخرى.

الكتابة عن الجسد إحدى موضات التدوين التي تقف وراءها أيديولوجيا كاملة، هي الفردية المطلقة، «الأنا» التي لا يعنيها من العالم إلا حدودها، مرة بزعم أن الأفكار الكبرى عن العالم والحياة تكشفت عن وهم، ومرة بزعم جمالي أن ما نملك قوله في النهاية ليس أكثر من محيطنا الذي نعرفه ويلتصق بنا، وأخرى باعتباره كسرا للأعراف و«التابوهات» بحسبان الجسد في ثقافات معينة يدخل ضمن دائرة تتصل بالمحرم والممنوع.
جسدنا، هذا الملاصق لوجودنا، هل هو لنا فعلا؟ هل ينمو بمعزل عن وعينا به، وعن خياراتنا وأيضا عن المحيط الاجتماعي والثقافي الذي ينشأ فيه؟
يُهدَى دانييل بناك من طرف صديقة له صفحات من مذكرات خلفها لها أبوها، الذي اتخذ قرارا عجيبا في صباه إثر حادثة موجعة أن يكتب عن جسده كل يوم. ينشر دانييل المذكرات، وفق زعمه، التي بخلاف عنوانها تحفل بالحديث عن كل ما يحيط بالجسد؛ كل العوامل التي أسهمت في قوته وضعفه. إنه رفيق لكن له قانونه الخاص. وهو من جهة أخرى خاضع للتأثر بالقرارات وبأفعال الآخرين. ولا يخاطبنا تقريبا إلا من خلال اللذة والألم.

الصورة والمرآة
يكتب بناك «أشعر بدوار المرتفعات، لكني لا آبه به، بوسعنا إذن أن نمنع أحاسيسنا من إعاقة أجسادنا. الأحاسيس تدجن كالحيوانات المتوحشة، بل إن ذكرى الخوف تزيد المتعة».
راوي المذكرات الأصلي لديه مشكلة كبيرة مع جسده؛ مشكلة مبعثها الأب والأم معا. الأب المريض، والأم التي تبدو كأنها لا تغفر الضعف، وترى في ابنها صورة أخرى من أبيه فتدفعه بقسوة ليكون أقوى وفق مقاييسها. تضعه الأم في اختبارات مهينة لدرجة تدفعه إلى كراهية النظر إلى جسده في المرآة.
لكن مرة أخرى ما الجسد؟ يُطلِع الأب ابنه على معجم لاروس الفرنسي. هناك صفحة طبعت عليها صورة لجسد إنسان عار من الجلد، حيث لا يظهر إلا النسيج العضلي. هذا الجسد المثالي هو لاشيء، هو تلك المادة التي سنجدها في نهاية الرواية قابلة للتخثر والانحلال حتى بالرغم من رغباتنا.
هل يمكننا أن نأمر الجسد الذي نراه أمامنا في المرآة ليكون ما نريده له؟ تحت ضغط الأم يتمنى الصبي، كاتب المذكرات، لو كان جسده شفافا غير مرئي، لقد تحول بالنسبة إليه إلى عبء.
ما يخلص الصبي من هذه المشاعر السلبية هو الخادمة فيوليت. وبعكس الأم تدفع فيوليت جسد الصبي إلى النمو من خلال عاطفة الاهتمام والتواضع. يعني التواضع إدراك أن للجسد قانونه، أنه ليس ابن المخيلة والإرادة فحسب، لكن أيضا أنه ابن المشاركة.

الجسد والآخرون
في مشهد دال تعالج فيوليت الطفل من آثار جرح بوضع مادة مطهرة تعلم أنها ستؤلمه، وبينما تمر بيدها على ساقه تصرخ صراخا عاليا. النتيجة أن الطفل تحت وقع الدهشة لم يشعر بالألم، تكرر المرأة التجربة، هذه المرة أيضا، رغم ذهاب الدهشة، لا يشعر بالألم. لماذا نتألم إذن؟ ألا يكون مبعث جزء من الألم على الأقل هو شعورنا بالغربة والوحشة المفاجأة تجاه أجسادنا؟ وأن إحساسنا بأن أشخاصا قد حملوا عنا عبئه يخفف من هذا الألم إن لم يجعله يتراجع تماما؟
ندرك أيضا في الرواية أن جسدنا ليس معطى جاهزا، إنه مدين للآخرين الذين تركوا عليه بصماتهم وخبراتهم. وهذا هو الأثر الفريد الذي تركته فيوليت على الصبي، لقد مكنته من معرفة جسده، وصالحته به. وحين تموت يدون الصبي صفحات كاملة لا تحمل إلا اسمها مكررا «فيوليت.. فيوليت..»
«لا يدري المرء البتة من أين سيفاجئه جسده؟» ليست هذه جملة بسيطة، فثمة غربة أصيلة بين وعي المرء وجسده، فجوة يظل يرممها.
نتصرف كما لو كان الجسد مبطِّنا لوعينا، لكن كاتب المذكرات يفاجئنا بهذه الجملة «كلما عرض لي شيء جديد اكتشفت أن لي جسدا» أي ببساطة اكتشف المسافة التي تفصله عنه. لا يقف «جسد» دانييل بناك في مواجهة العالم، لا يقول كالإعلانات والدعاية الرخيصة: اهتم بجسدك، وكأنه كل ما تملكه، أو أنه هو أنت بالتحديد. «جسد» دانييل بناك، وبفضل فيوليت، والآخرين ينفتح على العالم ويتعلم، يجادل الوعي ويصادقه ويخاصمه أيضا. رفيق لم نختره، لكنه هو وسيط مشاعرنا ومندوب أفكارنا في وسط العالم.
لا يعود الصبي خائفا من المرآة، يتعلم من حكمة صديقه الذي يعرف أننا نسكن في جسد ليس لنا، فلا يرتعب لتغيراته وردود فعله، وكأنها خيانة.

علاقة بينية
ما يميز كتاب بناك هو مدخله السردي الذي يبدو بسيطا رغم تركيبه. فهو يبدأ من الانتباه للخارج، من التفاصيل الملموسة والمحسوسة بدقة عالية، ولكننا لا نلبث أن نكتشف صلتها وانفتاحها على كل محيطها: العلاقات الإنسانية، الأفكار، الطموحات، الوسط البيئي والطبيعي، الصحة والمرض والمتعة والألم. تصاحب المذكرات حياة كاتبها إلى اللحظات التي تكاد تسبق احتضاره فيكتب «كنت أصبو أن أقول كل شيء، لكني ما قلت إلا قليلا، بالكاد لامست الجسد الذي أردت وصفه» ونحن أيضا بالكاد نجتاز الهوة بيننا وبين أجسادنا، يظل وعينا معلقا وعلى مسافة من جسد نراه أمام أعيننا لا يخضع فقط لتصوراتنا عنه ولا لإرادتنا. ثمة مصالحة واجبة. ومصالحة كاتب المذكرات مع جسده مرت بالضرورة بتصالحه مع العالم ولو بقدر ما.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق