فنيات

ثلاثة روائيين لبنانيين في طرابلس..صورة أخرى عن المدينة

لعموم اللبنانيين، ظلت مدينة طرابلس في السنوات الأخيرة المدينة المنسية التي تعيش على وقع اشتباكات داخلية بين احيائها، وتوصم بالفقر والحرمان إلى جانب نزوعها نحو التطرف الإسلامي. وهذا تنميط يحاول مجتمعها المدني ونخبها الثقافية كسره لتحل محله صورة أخرى عن مدينتهم، التي كانت تزهو في ستينات القرن الماضي بحركة أدبية ناشطة، وتحتفي بالشعراء والادباء من مختلف أقطار الوطن العربي، عبر إقامة المهرجانات الفنية والأنشطة الثقافية المتنوعة.

آخر هذه الأنشطة ندوة حول الرواية بعنوان «أصوات من الرواية اللبنانية»، دعا اليها نادي ليونز ومركز الصفدي الثقافي، وشارك فيها ثلاثة من روائيي لبنان والعالم العربي: حسن داوود، محمد ابي سمرا، ورشيد الضعيف. أدار الندوة الدبلوماسي والمؤرخ ابن طرابلس خالد زيادة، الذي استهل كلمته بالقول لو كنا نريد إقامة نشاط ثقافي في الثمانينات من القرن الماضي لكنا دعونا ثلاثة شعراء، ولكن اليوم الأولوية للرواية بسبب تطور الفن الروائي في العالم اجمع. وأضاف زيادة ان الرواية استفادت من كل التطورات التي حدثت في القرن التاسع عشر على صعيد علم الاجتماع وعلم النفس. الفارق الذي احدثته الرواية في عالمنا العربي هو الانتقال من الشعرية الى الروائية، أي من الثقافة الشفهية الخطابية الى الثقافة المقروءة التي تضع القارئ أمام النص.
اللافت ان الحضور كان وازنا مقارنة بما نشاهده في أي نشاط ثقافي بيروتي، وجمع مهتمين بالأدب والفن، طلاب جامعات، ورجال وسيدات أعمال.
الضعيف: شخصيات مهزومة
الروائي رشيد الضعيف تساءل في كلمة مرتجلة عن صوت الروائي الذي يكتسب معناه من مجموعة عناصر، أولها موضوع الرواية التي تمسه، وتؤثر فيه، او تؤذيه. وذكر الضعيف انه كتب في ثلاثة موضوعات: الحرب من حيث أثرها على شخصيات عايشوها، والعلاقة بين المرأة والرجل التي تناولها بجرأة اعترض عليها البعض، والرواية التاريخية من رؤية خاصة. أما العامل الثاني الذي يشكل صوت الروائي فهو الأسلوب الذي يتجاوز مستوى اللغة البحت ليمثل نظرته إلى الحياة والوجود. الشخصيات التي يختارها الروائي تحدد أيضا صوته الروائي، وهو انحاز الى شخصيات ركيكة مهزومة خائفة تحب الحياة ليقول يكفي شهداء، فقد تضخم عددهم وأصبحت الشهادة بلا قيمة.
أبي سمرا: الرعب والمهانة
في كلمته، استعاد الروائي محمد ابي سمرا لحظته الروائية الأولى، المنبثقة على الأرجح من «رعب قديم» سكنه من احجام البشر و«قوتهم اخلاقهم الغامضة». وقال ابي سمرا «أظن أن مصدر تلك القوة كانت اللغة ومقدرتهم على الكلام. إزاء أحجامهم وقوتهم تلك، تراءى لي انني ضعيف ومتناهي الصغر في عالمهم المكتمل قبلي وبدوني، ولا أدري لماذا ومن اين أتيتُ إليه وماذا يمكنني أن افعل فيه».
تحدث ابي سمرا عن القبور والظلام والأشباح التي عطلت قدرته على النوم ليلا وضاعفت غربته نهارا، و«في تلك العطالة النهارية الخرساء شطحتُ في الخيال، حتى صرت أرى خيالاً خالصاً، بل غير موجود في هذا العالم».
وذكر إن الروايات «قد تولد هكذا فجأة من طيف فكرة عابرة أو حركة عابرة، تماماً كما قال ميلان كونديرا في مطلع روايته الباريسية الأولى باللغة الفرنسية، التي ليست لغته الام، إن تلك الرواية (وهي الخلود) ولدت من تلويحة يد امرأة لم أعد أنا أذكر أين شاهدها».
والروايات لا تكتب إلا إذا «حلَّ كتّابها في شخصياتها ورواتها وتلبّسوهم على هذا القدر أو ذاك». الرعب الطفلي القديم حوله أبي سمرا في مراهقته إلى «شغف بالصور والكلمات المكتوبة الخرساء، وهو الشغف نفسه الذي دفع الراوي» في روايته الثانية إلى «أقاصي نفوره من مهانة ولادته من أمه وأمومتها التي يلابسها الدين والتدين».
داوود: قبلة لبنان الجميل
الروائي حسن داوود حائز جائزة نجيب محفوظ عن روايته «لا طريق إلى الجنة»، قرأ مقطعا من رواية يعكف على كتابتها بعنوان «الزمن الجميل» في لبنان الربع الثالث من القرن العشرين، الذي أطل عليه داوود روائياً من كلية التربية في الجامعة اللبنانية. و«نهاية الماضي الجميل لم تكن في سنة 1975 وفق كثيرين، بل في 1973 حين قامت حرب أولى، وإن قصيرة، بين الجيش والمقاومين الفلسطينيين. بل إنّ هناك من يرجع أربع سنوات أخرى إلى الوراء فيقول إن البلد بدأ انهياره في 1969 حين اندلعت التظاهرات في يوم 23 نيسان (ابريل) من ذلك العام هاتفة لمجيء المقاومة الفلسطينية بسلاحها إلى لبنان».
أما محمد صافي، أحد شخصيات الرواية في كلية التربية فـ«كان يرى أنّ لبنان بدأ ازدهاره في أوّل تلك السنوات العشرين وظلّ يزداد جمالاً سنة بعد سنة، راسماً خطّاً بيانياً متصاعداً كانت قمّته، تلك التي بدأ انهياره من بعدها، في الساعة العاشرة والنصف من يوم 11 (فبراير) 1968. فعند ذلك التوقيت، اقترب صالح الشميساني من كاتيا التي كانت قد انتسبت إلى الكلّية مؤقّتا، إذ كانت تنتظر اكتمال أوراقها في الجامعة السويسرية التي ستنتقل إليها فعلا في السنة الدراسية اللاحقة. قال لها صالح إنّه سمعها تغنّي في الكافتيريا منذ يومين وقد أحبّ صوتها كثيرا. ظلّت كاتيا تنظر إليه من تحت كفّها الذي جعلته واقيا لعينيها من وهج الشمس، وانفرجت شفتاها عن ابتسامة، ثم قالت له، بصوتها ذاته الذي سمعه مغنّيا قبل يومين: طيّب هلّق أنا شو لازم أعمُل؟»
مطلع رواية يحاول حسن داوود ان يقول فيه إن ما جعل زمن لبنان الجميل ذاك جميلا هو قبلة عابرة بين شاب مسلم وفقير من جنوب لبنان، وصبية مسيحية من جبل لبنان ميسورة وتجيد اللغة الفرنسية، وذلك كناية عن الاختلاط الاجتماعي اللبناني في تلك الحقبة الزاهية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق