اقتصاد

الناتج المحلي مقياس خاطئ لرفاهية الشعوب

في العام 1905 -وهو العام نفسه الذي أنهى فيه الدكتوراه- نشر ألبرت أينشتاين، ثلاثا من أهم أوراقه البحثية على الإطلاق. الأولى كانت حول «الحركة البراونية»، أما الثانية، فتناولت ظاهرة «التأثير الكهروضوئي» -ذات الورقة التي حصل بفضلها على جائزة نوبل في الفيزياء- أما الثالثة، فكانت حول نظريته الشهيرة «النسبية الخاصة».
في «النسبية الخاصة» أشار أينشتاين إلى أنه بغض النظر عن سرعة المنبع وجهة انتشار الضوء وحركة كل من المنبع والمراقب، فإن سرعة الضوء في الفراغ ثابتة دائماً. وبالتالي، لا تعتمد سرعة الضوء على ما إذا كان مصدر الضوء مثبتاً على عمود أو سفينة فضاء أو برج. سرعة الضوء ثابتة دائماً ولا يهم من أين نراقبها.

تجربة عمرها 25 عاماً
أينشتاين أخبرنا عن سرعة الضوء، لكن ماذا عن تكلفة الضوء؟ أي التكلفة التي تدفعها لإضاءة منزلك على سبيل المثال. هذه بالتأكيد قصة مختلفة تماماً. في عام 1994 حاول ويليام نوردهاوس، أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل الأميركية، قياس سعر أو تكلفة الضوء الاصطناعي خلال القرنين الماضيين باستخدام طريقتين مختلفتين.
الطريقة الأولى، هي ذات الطريقة التي نستخدمها أثناء قيامنا بحساب الناتج المحلي الإجمالي، وذلك من خلال حساب وجمع التغيير الذي شهدته أسعار الأشياء التي اشتراها الناس لإشعال الضوء على مر السنين.
هذه الطريقة قادت «نوردهاوس» للاستنتاج بأن تكلفة الإضاءة ارتفعت بما يتراوح ما بين 3 و5 أضعاف خلال الفترة ما بين عامي 1800 و1992.
لكن هذه الطريقة تغفل نقطة في غاية الأهمية، وهي أن كل اختراع من الاختراعات التي شهدها مجال الإضاءة بداية من الشموع ومروراً بمصابيح التنجستين ووصولاً إلى المصابيح الفلورسنتية كان أكثر كفاءة من سابقه في استهلاك الطاقة.
على الناحية الأخرى، قام «نوردهاوس» بحساب تكلفة الضوء الاصطناعي باستخدام الطريقة الثانية التي تشمل حساب تكلفة كل «لومن» (وحدة قياس التدفّق الضوئي) يتم إنتاجه، ليكتشف أن تكلفة الضوء الاصطناعي انخفضت 100 مرة خلال الفترة المشار إليها مقارنة بالأرقام الرسمية. فكمية الضوء التي كان المواطن الأميركي يشتريها في عام 1800 مقابل 100 دولار، كانت تساوي 3 سنتات فقط في عام 1992.
هذا التناقض الرهيب يرجع إلى أن الطريقة الأولى استندت إلى أسعار المدخلات في شكل سلع مشتراة، مثل الكيروسين أو الغاز أو الكهرباء. ولكن في الطريقة الثانية قام «نوردهاوس» بحساب السعر الفعلي للخدمة المقدمة للمستهلك. وهذه الطريقة كانت أكثر قدرة من الأولى على مراعاة التحسينات التي شهدتها كل من الجودة والكفاءة.
هذه التجربة تمت في إطار دراسة تحت عنوان «هل يعكس الناتج الحقيقي والأجور الحقيقية الواقع: تاريخ الإضاءة يخبرنا أن هذا ليس هو الحال». وأراد «نوردهاوس» من خلالها أن يدلل على أن أكثر محاولات الاقتصاديين لقياس التغيّرات التي تشهدها مستويات المعيشة معيبة، وأن الناتج المحلي لا يعبّر بأي شكل عن مستوى الرفاهية.

خسائر فبراير 2006
في فبراير 2006، تعرّضت سوق الأسهم السعودية لأكبر هزة في تاريخها، خسرت خلالها ملايين المتداولين ما يزيد على تريليون ريال، ليفقد أكثرهم نصف مدخراته أو مدخراته كاملة. لكن الطريف أو ما لم يلاحظه البعض هو أن الناتج المحلي الإجمالي في هذا العام ارتفع بنسبة %5.6، في حين ارتفع نصيب الفرد من هذا الناتج بنسبة %10.9. هل يعني هذا أن المستوى المعيشي للسعوديين في عام 2006 كان أفضل مقارنة بعام 2005؟
قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نوضح ما المقصود بمستوى المعيشة؟ مستوى المعيشة هو مصطلح واسع يشمل عوامل كثيرة، من بينها عوامل لا يمكن شراؤها أو بيعها في السوق. ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يجسد جزءا صغيرا مما يعنيه هذا المصطلح.
بالتالي، لا يمكن الاعتماد على الناتج المحلي الإجمالي أو نصيب الفرد منه في قياس مستوى المعيشة، لأن العديد من العوامل المؤثرة في مستوى المعيشة، والتي تسهم في سعادتنا وراحتنا ورفاهيتنا كمواطنين لا تعبر عنها أرقام الناتج المحلي الإجمالي.
على سبيل المثال، وقت الفراغ الذي تستمتع به مع أسرتك بعيداً عن ضغوط العمل هو جزء لا يتجزأ من مستوى المعيشة، ولكن هذا العامل لا تشمله حسابات الناتج المحلي الإجمالي. مثلاً، في الولايات المتحدة، نجد أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أكبر من نظيره لدى ألمانيا. لكن هل يعني ذلك أن مستوى المعيشة في أميركا أعلى؟
لا، هذا لا يعني إطلاقاً أن مستوى المعيشة في الولايات المتحدة أعلى من ألمانيا، وذلك لأننا إذا نظرنا إلى أحد أهم العوامل المؤثرة في مستوى المعيشة مثل عدد ساعات العمل وطول الإجازات المتاحة، فسنجد أن الألمان أكثر حظاً بكثير من الأميركيين. ورغم ذلك، نجد أن الناتج المحلي الإجمالي كمقياس لا يأخذ في حسبانه أسابيع الإجازة الإضافية التي يحصل عليها العمال الألمان سنوياً.
المبالغ التي تنفقها الحكومة سنوياً على الرعاية الصحية والتعليم وحماية البيئة تظهر في الناتج المحلي الإجمالي، ولكن هذا الرقم لا يوضح المستويات الفعلية للصحة أو التعليم أو النظافة البيئية. على سبيل المثال، قد يشير الناتج المحلي الإجمالي إلى أن الحكومة أنفقت 10 مليارات ريال خلال العام المنصرم على التعليم، ولكنه لا يخبرنا بأي شيء حول مدى جودة العملية التعليمية وما إذا كانت تطورت أو تدهورت.
نفس الأمر ينطبق على المليارات التي تنفقها الحكومة على الرعاية الصحية. هذه المبالغ لا توضح لنا ما إذا كان متوسط العمر المتوقع أو عدد وفيات الرضع قد ارتفع أو انخفض. وبالمثل، يخبرنا الناتج المحلي بتكلفة شراء معدات مكافحة التلوث، ولكنه لا يوضح ما إذا كان الهواء قد أصبح أنظف أو أكثر تلوثاً.
باختصار، الناتج المحلي الإجمالي يشمل فقط العمليات التي تم إجراؤها في السوق، ولا يغطي تلك التي تمت خارجه أو بعيداً عنه. على سبيل المثال، قيامك بتوظيف شخص لقيادة سيارتك يعتبر جزءاً من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن إذا قمت بنفسك بقيادة السيارة فإن هذه العملية لن تنعكس على الناتج المحلي.

الأزمات والناتج المحلي
لكن النقطة الأكثر أهمية من كل ما سبق، هي أن الناتج المحلي الإجمالي لا يعبّر أبداً عن درجة المساواة في المجتمع أو كيفية توزيع الدخل والثروة بين الناس. على سبيل المثال، في عام 2017 بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في السعودية 20.796 ألف دولار.
هذا الرقم ما هو إلا متوسط. فإذا افترضنا أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ارتفع بنسبة %7 خلال العام الماضي، فهذا لا يعني أن مساهمة كل فرد منا في الناتج المحلي ارتفعت بالنسبة نفسها. ما حدث في الواقع، هو أن دخل البعض ارتفع خلال تلك الفترة بنسبة أكبر من %7 وبعضنا ارتفع دخله بنسبة أقل، في حين إن هناك آخرين أقل حظّاً انخفض دخلهم.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يعتبر ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي أمراً جيداً. لنفترض مثلاً أن السيول اجتاحت واحدة من المدن السعودية وأحدثت أضراراً كبيرة بالمباني والمنشآت، وهو ما تسبّب في أن تشهد المدينة لاحقاً طفرة في نشاط البناء، انعكس أثرها على الناتج المحلي الإجمالي. هل يمكننا القول إن تلك السيول كانت مفيدة اقتصادياً؟
السرقة منتشرة جدّاً في بعض مدن دولة جنوب أفريقيا. وتحت وطأة الخوف المتصاعد من التعرّض للسرقة يقوم السكان بصرف جزء غير ضئيل من دخولهم في شراء القضبان الحديدية وأجهزة الإنذار وكاميرات المراقبة. كل الأموال التي أنفقها هؤلاء على هذا الغرض انعكست إيجابياً على نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. لكن هل يعني هذا أن مستواهم المعيشي تحسن؟
هذا في الحقيقة يقودنا إلى نقطة أخرى مهمة، وهي أن الزيادات التي يشهدها الناتج المحلي في كثير من البلدان على مر السنين تكون أحياناً مجرد زيادات وهمية. فمن الممكن نظرياً أن ينخفض مستوى المعيشة وتتدهور الصحة العامة ويتراجع مستوى التعليم ونظافة البيئة في نفس الوقت الذي يرتفع فيه الناتج المحلي الإجمالي.

من الغنى إلى الفقر
جمهورية ناورو أو ما كانت تعرف قديما باسم الجزيرة السعيدة أو الجزيرة المبهجة هي دولة جزرية تقع في ميكرونيزيا في المحيط الهادئ، وتعد أصغر دولة جزرية في العالم، كما تعتبر ثالث أصغر دولة في العالم، بعد كل من الفاتيكان وموناكو.
ظهرت ناورو على الساحة العالمية في سبعينات القرن الماضي، بعد أن تمكّنت بشكل مفاجئ من تسجيل أعلى نسبة نمو لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في العالم، وذلك على خلفية اتجاهها للاستفادة من احتياطياتها الكبيرة من الفوسفات، الذي يعد أحد المكونات الرئيسة في صناعة الأسمدة.
هذا التحوّل ساهم في حدوث طفرة اقتصادية غير متوقعة، نما خلالها الناتج المحلي الإجمالي بمعدلات غير مسبوقة، ولكن في الوقت نفسه أدى الاستغلال المفرط لمناجم الفوسفات إلى تدهور الأراضي وأثّر سلباً في النظام الأيكولوجي المحلي وفق حالة الطقس بالجزيرة، لتعاني لأول مرة في تاريخها من الجفاف.
لم تهتم الحكومة هناك سوى بنمو الناتج المحلي الإجمالي وقررت تجاهل الآثار السلبية المصاحبة لذلك التوسع، ومع مرور الوقت أدى هذا إلى إفقار الجزيرة ليتراجع ترتيبها في عام 2017 في تصنيف الدول صاحبة أعلى نصيب للفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى المرتبة الـ99.
في كتابه «العالم ما بعد الناتج المحلي الإجمالي» الصادر في يناير 2018، أشار أستاذ الاقتصاد السياسي الإيطالي لورينزو فيورامونتي إلى أن هذا النهج دفع الحكومة إلى الاعتماد حالياً على المساعدات الخارجية من أستراليا وتايوان ونيوزيلندا. (أرقام)

درسان مهمان
هناك درسان مهمان يمكننا استخلاصهما من تجربة جمهورية ناورو؛ الأول هو أن النمو الاقتصادي لن يستمر على نمط واحد إلى الأبد. ومن الممكن أن يؤدي الطمع وقصر النظر وسوء الإدارة إلى انتكاسات مفاجئة في ثروات الاقتصادات الكبيرة والصغيرة على حد سواء، وهو ما نراه في فنزويلا أيضا.
أما الدرس الثاني، فهو أن الناتج المحلي الإجمالي هو مجرد مقياس للنشاط الاقتصادي في السوق، لذلك فهو غالباً ما يقدّم صورة مشوهة عن الواقع. ففي حالة ناورو كان النمو الاقتصادي المتصاعد يدفع بالدولة ومواطنيها نحو الفقر من دون أن يدري أحد. الأرقام والإحصاءات الرسمية مثل الناتج المحلي الإجمالي، لم تكشف عن الأضرار التي لحقت بالجزيرة إلا بعد أن فات الأوان وأصبحت الأضرار غير قابلة للإصلاح.
أخيراً، يجب أن نشير إلى نقطة مهمة جدّاً، وهي أن المشكلة ليست في الناتج المحلي الإجمالي بحد ذاته، ولكن في طرق وأوجه استخدامه. فالناتج المحلي الإجمالي لم يتم تطويره ليكون مؤشراً على الرفاهية أو السعادة، حتى لو أن كثيراً من الأفراد والحكومات يتعاملون معه على هذا النحو.
وربما أفضل من يخبرنا بهذا هو الرجل الذي أنشأ أصلاً مصطلح «الناتج المحلي الإجمالي»، الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل سيمون كوزنتس. في عام 1934 وقف كوزنتس أمام الكونغرس الأميركي محذّراً أعضاءه من الاستخدام الخطأ لهذا المقياس، قائلاً: «لا يمكننا استنتاج أن رفاهية الأمة تحسّنت بتحسّن الدخل القومي».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق