خارجية

قيصر روسيا للقرن الحادي والعشرين

بعد مرور سبعة عشر عاماً على تولي فلاديمير بوتين منصب الرئيس، أصبحت قبضته على روسيا أقوى من أي وقت مضى. والغرب، الذي لا يزال يرى روسيا بمنظور ما بعد الاتحاد السوفيتي، أحياناً، يصنف بوتين باعتباره أقوى زعيم في بلاده منذ ستالين. ويتطلع الروس بشكل متزايد إلى حقبات سابقة من التاريخ. ويتحدث كل من الإصلاحيين الليبراليين والتقليديين المحافظين في موسكو عن بوتين باعتباره قيصر روسيا للقرن الحادي والعشرين.
وقد حصل بوتين على هذا اللقب بعد إنقاذ بلده مما يرى العديد انها الفوضى التي سادت البلاد في التسعينات، وإعادتها الى المسرح الدولي مرة أخرى. ولكن البعض يعتقد ان بوتين قد أخذ من القياصرة نقاط ضعفهم أيضاً.

وعلى الرغم من أن بوتين يشعر بالقلق حيال الثورات «الملونة» التي اجتاحت دول الاتحاد السوفيتي السابق، فإن التهديد الأكبر ليس من انتفاضة جماهيرية، بل من ربيع 2018 عندما يبدأ بوتين ما يعتبر دستورياً آخر ولاية له تمتد لست سنوات في منصبه بعد الانتخابات التي سوف يفوز فيها، بالتأكيد، وسوف تبدأ التكهنات حول ما سيأتي بعد ذلك. وسوف تتنامى المخاوف، من ان القيصر فلاديمير، كما هي الحال مع بقية الحكام الآخرين لروسيا، سوف يخلف وراءه حالة من الفوضى.
وبوتين ليس هو المستبد الوحيد في هذا العالم. فقد انتشر الحكم الاستبدادي الفردي في جميع أنحاء العالم على مدى الـ 15 عاماً الماضية. وكثيراً ما بُني هذا الحكم، كما في حالة بوتين، على قاعدة هشة من التلاعب وديموقراطية «الفائز يظفر بكل شيء». إنها إهانة للقيم الليبرالية التي سادت في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي. لقد تصرف زعماء من امثال رجب طيب اردوغان في تركيا والراحل هوغو شافيز في فنزويلا ونارندرا مودي (رئيس وزراء الهند)، كما لو أنهم يتمتعون بسلطة خاصة مستمدة مباشرة من الإرادة الشعبية. وفي الصين، كرس زي جين بينغ مؤخراً، قيادته المطلقة للحزب الشيوعي.
لقد اتبع بوتين نهجاً جديداً في الاستبداد. فهو يستحضر تاريخ روسيا الإمبريالية، ويقدم صورة حية عن كيفية عمل السلطة وكيف يمكن أن تسير في الاتجاه الصحيح أو الخاطئ.

هرم المحسوبية
لقد أقام بوتين ـــ مثل كل القياصرة ـــ هرماً من المحسوبية. ومنذ أن شنّ حملة ضد الاثرياء من رجال الاعمال في عام 2001، من خلال السيطرة أولا، على وسائل الإعلام ثم على عمالقة النفط والغاز، أصبحت مفاتيح السلطة والمال كلها بيديه. وهو يغلف سلطته باجراءات قانونية، ولكن الجميع يعلم بأن المدعين العامين والقضاة كلهم رهن يديه. وهو يتمتع بشعبية تزيد على 80 في المئة. ويعود ذلك، جزئيا لأنه أقنع الروس بأنه «لا وجود لروسيا من دون بوتين».
ومثل القيصر أيضا، واجه السؤال الذي واجه حكام روسيا منذ بطرس الأكبر والكساندر الثالث ونيكولاس الثاني في فترة ما قبل اندلاع الثورة. فهل يجب على روسيا أن تقوم بالتحديث عن طريق اتباع المسار الغربي في مجال الحقوق المدنية والحكومة التمثيلية، أم تحاول تأمين الاستقرار من خلال التشدد في ذلك؟ وكان جواب بوتين هو ان يعهد بالاقتصاد إلى تكنوقراط ليبراليين وان يولي السياسة إلى ضباط سابقين في جهاز المخابرات الروسي «كي. جي. بي». وهكذا سيطرت السياسة على الاقتصاد ودفعت روسيا الثمن. بيد أن الاقتصاد لا يزال يعتمد اعتمادا كبيرا على الموارد الطبيعية، رغم إدارته بشكل جيد خلال العقوبات وتخفيض قيمة الروبل. وقد حقّق نموا في الناتج المحلي الإجمالي السنوي، وصل الى حوالي %2، وهي نسبة اقل بكثير مما حققه خلال الفترة من عام 2000 الى عام 2008، والتي وصلت الى %5 ــــ %10 خلال ارتفاع اسعار النفط. وعلى المدى الطويل، سيؤدي ذلك إلى كبح طموحات روسيا.
ومثل القيصر، عزّز بوتين سلطته من خلال القمع والتدخلات العسكرية. وقد قمع المعارضة السياسية والنشطاء والمنظمات الاهلية، باسم الاستقرار والتقاليد والدين الأرثوذكسي. في الخارج، جند وسائل الاعلام الخاضعة لسلطة الدولة للدفاع عن ضمه لشبه جزيرة القرم والتدخل العسكري في سوريا وأوكرانيا. ومع ذلك، فإن استياء الغرب الذي له ما يبرره من تصرفات بوتين، كشف للروس كيف انه اعاد قوة بلادهم بعد الإذلال الذي لحق بها في التسعينات.

قيصر ما بعد الحداثة
ماذا يعني قيصر ما بعد الحداثة للعالم؟ احد الدروس يتعلق بالخطر الروسي. فمنذ التدخل في أوكرانيا، شعر الغرب بالقلق من النزعة الانتقامية لروسيا في أماكن أخرى، خاصة في دول البلطيق. لكن بوتين لا يستطيع تحمل سقوط ضحايا بأعداد كبيرة دون أن يفقد شرعيته أيضا، كما حدث لنيكولاس الثاني في الحرب الروسية – اليابانية (1904 – 1905) وفي الحرب العالمية الأولى. ولأن قيصر اليوم يعرف التاريخ، فعلى الارجح أن يتصرف بانتهازية في الخارج، تقوم على الاستعراض بدلا من المخاطرة بالدخول في مواجهة حقيقية. أما الوضع في الداخل فهو مختلف. فخلال سنوات حكمه، أظهر بوتين شهية ضئيلة للقمع القاسي. لكن سجل روسيا في المعاناة الرهيبة يشير إلى أنه في حين أن القمع الفردي يضعف شرعية الحاكم، فإن القمع الجماعي يمكن أن يعززه لبعض الوقت على الأقل. وما زال لدى الشعب الروسي ما يخشاه.
الدرس الآخر هو حول الخلافة. فثورة أكتوبر تمثل الحالة الأكثر تطرفا في روسيا للسلطة التي تنتقل من حاكم إلى حاكم خلال اوقات مضطربة. فلا يستطيع بوتين أن يرتب خلافته باستخدام رابطة الدم أو جهاز الحزب الشيوعي. وربما يختار خليفة له. لكنه يحتاج إلى شخص ضعيف بما يكفي له للسيطرة، وقوي بما يكفي للوقوف في وجه منافسيه، وهذا مزيج صعب ان يتحقق. وربما يحاول بوتين التشبث بالسلطة، كما فعل دنغ هسياو بينغ من وراء الكواليس كرئيس لجمعية جسر الصين. وقد يفعل بوتين شيئا مماثلاً من خلال تولي رئاسة اتحاد الجودو الروسي. لكن مثل هذه الخطوة لن تنجح اكثر من تأخير لحظة الحقيقة للرئيس الروسي. فبدون آليات الديموقراطية الحقيقية لإضفاء الشرعية على الرئيس الجديد، فمن المرجح أن يبرز الحاكم التالي من صراع على السلطة قد يشكل بداية لتمزيق روسيا. وهذا امر مثير للقلق بالنسبة لدولة مدججة بالأسلحة النووية.
وكلما كان بوتين أقوى اليوم، وجد من الاصعب عليه إدارة مسألة خلافته. وبينما يحاول العالم أن يتعايش مع هذه المفارقة، عليه أن يتذكر ان لا شيء مضمون في هذا الشأن. فقبل قرن مضى، كان ينظر إلى الثورة البلشفية على أنها تأكيد لحتمية ماركس. وفي هذه الحالة، اثبتت أن لا شيء مؤكد وأن التاريخ له سخريته المأساوية الخاصة به.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق