اقتصاد

حقيقة عملة البتكوين

أثارت عملة البتكوين Bitcoin الكثير من الجدل والتحذير حول العالم، ولا سيما في الكويت، حيث أغلب التعليقات السلبية تعتمد على العاطفة، وليس على الأسس العلمية، إنني لا أكتب هذه المقالة لأشجع الاستثمار في البتكوين، انما اكتبها لنشر الوعي حول حقيقة البتكوين حتى يتسنى لكل شخص تقييم أي عملة رقمية بنفسه وبعد استيعابه التام لهذا الموضوع.
الإعلام ليس علماً.. هذه حقيقة يتجاهلها الكثيرون
دعونا نقرأ أحدث الانتقادات على «البتكوين» في الإعلام:
1 – عملة البتكوين ليست حقيقية ولا توجد لها قيمة.
2 – لا يوجد شخص مسؤول عنها ولا توجد قوانين تنظمها.
3 – لماذا تحذر الجهات الرسمية حول العالم من البتكوين؟
4 – عملة البتكوين تفيد بتمويل الارهاب وغسل الأموال والمتاجرة في المخدرات فقط.
5 – مقارنة البتكوين بأزمة التوليب وأزمة المناخ.
6 – ماذا عن العملات الرقمية الأخرى التي وصل عددها إلى أكثر من ألف عملة؟
الرد على جميع هذه الانتقادات يصبح سهلاً، عندما نفهم التكنولوجيا التي تفعل كل العملات الرقمية المنتشرة اليوم، التي تدعى تكنولوجيا البلوكشين Blockchain.
ان التعمق في تفاصيل البلوكشين مثير جداً ويبدو معقداً، انني أنصح المهتمين بالقراءة عنه والتعمق بطبيعته. لغرض هذه المقالة دعونا نبسطه ونعتبره الإنترنت الجديد المتطور، وأساس التطور هو إضافة مبدأ القيمة والثقة فيه.
لقد تم اختراع الإنترنت في السبعينات لوزارة الدفاع الأمريكية لغرض ارسال البريد الإلكتروني بين أفرادها في قسم البحوث، ومن بعدها توسع استخدامه في الشركات للمراسلات الداخلية، ثم قامت شركات مثل نتسكيب Netscape، وياهو Yahoo، بتطويره في التسعينات ليكون بمتناول كل الناس، بل أصبح أداة يومية تستخدمه كل الحكومات والشركات، حيث بنيت على أساسه أكبر شركات العالم اليوم مثل غوغل وفيسبوك وأمازون وغيرها.
عندما تم اختراع الإنترنت كان على مبدأ التعامل بين فرد وفرد من غير طرف ثالث أو جهة مركزية لتبادل المعلومات والتواصل عبر شبكة مكونة من عدة شبكات، مع مرور الوقت، أصبح الإنترنت أكثر مركزية، وتحكمه الشركات العملاقة والحكومات التي سيطرت على بيانات مستخدميها حتى تجمعت بياناتنا لديها.

ما هي تكنولوجيا البلوكشين؟
قاعدة بيانات غير مركزية ومنتشرة في شبكة، تحرسها شفرات معقدة، ويستطيع أي شخص النظر إليها والمشاركة بصيانتها، الشبكة عبارة عن كمبيوترات حول العالم، يحمل كل واحد منها نسخة من كامل البيانات التاريخية لهذه الشبكة، ويتفقون على تأكيد وتسجيل عمليات جديدة كي ترفض أي نسخة بيانات غير متطابقة مع ذلك، اضافت تكنولوجيا البلوكشين على الإنترنت مبدأ القيمة، التي هي قلب التأثير الثوري للعملة الرقمية في العالم، ومنها سمحت بتحويل أي قيمة من شخص إلى آخر بكامل الأمانة والضمان على اتمام العملية وتسجيلها بدقة دون الرجوع إلى جهة مركزية، إذا حملنا صورة أو فيديو في الإنترنت، يبقى الأصل لدينا وتنتشر نسخة منه، لكن تصور ان استطعنا نسخ مبلغ من المال من شخص ونشره واستخدامه، لا يستطيع أحد نسخ أو مسح أو تعديل قيمة في البلوكشين. فإن كنت تملك قيمة معينة لا يستطيع أي شخص تملك القيمة ذاتها، فهي ملك لك وحدك، وان حاول نسخها أو أخذها فإن الشبكة ترفض المعاملة، والثقة في البلوكشين تجعلها مناسبة لحفظ أي حق مثل العقار وتاريخنا الطبي وحتى هويتنا.
يقوم المتطوعون بتحميل الشبكة بتجربة فك شفرات معقدة لتسجيل عمليات جديدة، وفي المقابل يحصلون على حافز «عملة رقمية مثل البتكوين» ــ وهنا نأتي الى أهمية العملة الرقمية التي تشكل الحافز، فمن غيرها لا نستطيع ان نضمن الشبكة، فهي التي تحرك العملية وتجعلها عادلة.

دعوني أوضح لكم سيناريو
نزور موقعاً إلكترونياً مثل «أمازون» أو «طلبات»، نختار منتجاتنا، ومن ثم علينا تعبئة معلومات عن بطاقاتنا الائتمانية او «الكي ــ نت»، ما يحصل بعد ذلك هو مجموعة خطوات، عبارة عن تواصل الموقع الإلكتروني مع البنك المسؤول عن حساب الموقع. وبعد ذلك يتواصل البنك مع شركات مثل «فيزا» أو «كي ــ نت»، التي تقوم بالتواصل مع البنك المسؤول عن حسابك (والذي يسمح او لا يسمح بالعملية بناءً على المبالغ المتوفرة لديك) عبر شبكاتهم المتواصلة، لتحديد المبلغ وحجزه وتحويله من حساب الشخص الى حساب الموقع الإلكتروني. والمبلغ لا يدخل في حساب الموقع الإلكتروني فورا، إنما يحجز من حساب الأصل، لكي يتحول بعد يوم أو أكثر، وبالطبع لا ننسى التكاليف التي تفرضها شركات كي ــ نت وفيزا، لكي تنسّق ما بين حساب العميل وحساب الموقع الإلكتروني.
هل تعتقدون ان بمثل هذه العملية يوجد تبادل حقيقي بالمال؟ إن جميع الأطراف لديها نظم تغير وتحول المبالغ إلكترونيا، وباستخدام تشفير أضعف من التشفير المستخدم في العملات الرقمية. ولا يضمن صحة العملية إلا سمعة الشركات، مثل فيزا والبنوك، لا يوجد مال حقيقي أو ذهب لضمان قيمة المبالغ.

ما هي قيمة الذهب؟
من يقدّر قيمة الذهب؟ وعلى أي أساس؟ لماذا ظل الذهب أغلى من جميع المعادن الأخرى مثل النحاس أو التيتانيوم أو الألمنيوم، حتى وإن كانت فوائد الذهب أقل بكثير من زملائه؟ يستحيل أن يكون السبب هو استخدامه البسيط في طب الأسنان ــ تأتينا فكرة واحدة في البال عندما نفكر بالذهب ــ الفخامة. رأى الناس في الماضي جمال الذهب وندرته، واعتبروه رمز الغنى للملوك والارستقراطيين. ومنذ ذلك الوقت استخدم ليساند ويحدد قيمة العملة المصدرة من قبل أي دولة. ولكن في بداية السبعينات فكّ نيكسون ارتباط الدولار بمخزون الذهب، نظرا إلى زيادة الحاجة للمال وندرة الذهب، أصبحت العملات مضمونة فقط من قبل حكومات الدول المصدرة، الحكومات مثل أمريكا التي وصل مقدار مديونيتها 20.493.371.220.438 دولاراً، رقم لا أستطيع حتى قراءته، ومع ذلك فإن عملتها هي العملة المضمونة نسبياً، والتي يثق فيها أغلب العالم. والآن الذهب أصبح لا يدل على شيء، ولا يملكه أو يضمنه أحد، فمن أين تأتي قيمته؟ تأتي من نظرتنا له واعجابنا به ــ أليس هذا مبدأ مألوفاً؟
علّمنا التاريخ أن الحكومات تصدّر وتضمن قيمة عملاتها، فماذا تعتقدون سوف يحصل عندما تأتي تكنولوجيا مثل البلوكشين تهدد قوة وسلطة الحكومات على المال العام؟ سوف نرى سلطات العالم تحذّر منها وترسمها بصورة مشوّهة كي يبتعد عنها الناس، وهذا ما نراه اليوم. وكم سمعنا رؤساء منظمات عالمية وبنوك وجهات رسمية يحذّرون منها ويحرّمونها ويربطونها بمجرمين، فلا يؤثر في قيمة البتكوين، بل نرى القيمة ثابتة وتزيد، هذا دليل على أننا نكاد نصل الى حقيقة جديدة لا تلعب فيها الحكومة دوراً مركزياً في المال العام كما في السابق، انما أصبحت السلطة على ممتلكاتنا الخاصة مسؤولية كل فرد على نفسه. لكن ان ابتعدنا عن الإعلام ونظرنا الى الحقائق، نرى حكومات العالم تحاول ان تفهم التكنولوجيا وتطبقها وتتعاقد مع شركات مخصصة لكي يحوّلوا عملاتهم الى عملات رقمية ايضا.
لقد انتقد الكثيرون عملة البتكوين (التي هي أول تطبيق واقعي لتكنولوجيا البلوكشين كما كان البريد الإلكتروني مع الانترنت)، وذلك لعدم إمكانية تعقبها، فهي تفيد الأعمال غير القانونية فقط، وهذا أمر غير صحيح وما يجهله أكثر منتقدوها هو أن البتكوين سهلة التعقيب، لا تحتاج سوى العنوان الإلكتروني الذي تريد تعقبه، وترى في سجل البلوكشين جميع العمليات التي تمت من ومع هذا العنوان (دون القدرة على التلاعب بها)، فالعمليات تتم من عنوان معلوم يملكه شخص مجهول. لكن إن ربطنا الشخص بالعنوان يسمح لأي شخص في أي جهة بالاطلاع على تاريخ العمليات المرتبطة بهذا العنوان. فبغض النظر عن المفهوم الخاطئ، عملة البتكوين تستطيع ان تساعد الحكومات ضد غسل الأموال والتهرب من الضرائب، إذا استطاعت السماح بها والاستفادة منها. فمثلا تستطيع أي حكومة ان تربط الرواتب بعقد إلكتروني آمن (بشرط الدفع بعملة رقمية)، فلا يستطيع أحد العبث به، وتفرض الضرائب عليها في العقد الإلكتروني، ويستحيل على الشخص ان يهرب من الدفع، لأن العملية كلها مكتوبة في هذا العقد، وتنفّذ إلكترونيا لتضمن بنود العقد. هناك عملات رقمية أخرى غير البتكوين يصعب تعقبها، مثل عملتي مونيرو Monero وزيكاش Zcash، وهنا تقع على الجهات الرسمية مسؤولية التحكم بالمجرمين وليس بالعملات. هل اعترف منتقدو البتكوين بفوائدها؟ إنهم يتكلمون عن الاجرام في حين ان اكثر الجرائم المالية الشائعة التي نراها اليوم هي جرائم الفساد، فماذا عن ذلك؟ ان استخدام تكنولوجيا البلوكشين وعملة مثل البتكوين، يجعل الفساد مستحيلا، أو على الأقل أصعب بكثير، فهل منتقدو البتكوين يميزون بين المجرم والآخر؟
لأي تكنولوجيا جديدة مشاكل كثيرة في البداية، ونستطيع أن ننسب لها عدة سلبيات، كما فعلنا مع الإنترنت، فالإنترنت حصل على انتقادات مشابهة في بداياته، على أنه يساعد في نشر الإرهاب وغسل الأموال ومجموعة هائلة من الجرائم الأخرى، لكن هل منعنا الإنترنت، وكم من الفرص كنا سنفقدها إن منعنا الإنترنت؟ نحن الآن نرى بناء البنية التحتية لتكنولوجيا البلوكشين لكي نستفيد منها بكامل ما توفره لنا مستقبلا.

مقارنة
لقد مضى على اختراع عملة البتكوين أكثر من 8 سنوات، وقيمتها السوقية في وقت الكتابة أكثر من 200 مليار دولار، ويتكّون جمهورها من الغني والفقير حول العالم من الذين يقبلون التعامل بها، فكلما زاد تبنيها زادت قيمتها، فالحد الأقصى لكمية البتكوين هي 21 مليون وحدة بتكوين، وحالياً يوجد أقل من 17 مليون وحدة بتكوين، انها نادرة مثل الذهب، وقوتها تعتمد على كثرة استخدامها وتبنيها، واستقرار قيمتها بالمقارنة مع العملات الرقمية الأخرى يجعلها مناسبة كمخزن للقيمة.
تحصل الفقاعات في السوق بعد المضاربات الهائلة والتقييم المبالغ فيه، قد يحتمل أن تكون بقية العملات الرقمية فقاعة ومبالغاً في تقديرها، لكن تكنولوجيا البلوكشن بالتأكيد ليست فقاعة والعملة الرقمية أساسية في فعّالية هذه التكنولوجيا. مقارنة عملة البتكوين بأزمة التوليب وأزمة المناخ تدل ع‍لى جهل الناس بتكنولوجيا البلوكشين، فباستخدام العقود الإلكترونية المشفرة يستحيل على أي شخص بيع ما لا يملكه، فقد اشتعلت أزمة سوق المناخ بسبب المضاربة وشيكات الآجل، التي كانت عليها فوائد عالية، فقد كان الناس يظنون أنهم قادرون على دفع شيكات الآجل لأن كل الأسعار كانت ترتفع، كان الجميع ولمدة قصيرة، يربح من أي استثمار، وكانت الأسعار غير متطابقة مع قيمة الأصل، فبعدما انفجرت هذه الفقاعة فشل المستثمرون بدفع شيكات الآجل وانهار السوق. إن كان البلوكشين ينظم السوق في وقتها لكانت العقود الإلكترونية تؤكد قدرة المستثمر على دفع الآجل قبل التعاقد، وتضمن الدفع في الوقت المطلوب، لأنها تنفّذ العقد إلكترونيا (وحتى يحصل ذلك يستلزم التعامل بعملة رقمية) من غير مشاورة الأطراف المتعلقة، كونهم اتفقوا على العقد بينهم في البداية، أما بالنسبة لمقارنة عملة البتكوين (المشفرة والنادرة والتي ارتكزت على أحدث تكنولوجيا وأكثرها متطورة للمحافظة على قيمتها) بوردة التوليب التي تذبل وتموت بعد أسبوع، وتهوّر الناس بتقييمها في القرن السابع عشر، فلا أستطيع أن اعلّق عليه، لكن للعلم، هذه المقارنة أشهرَها جيمي ديمون ــ الرئيس التنفيذي لبنك JP Morgan ــ في شهر سبتمبر 2017، والذي صرح بعدها في شهر يناير من هذا العام أنه ندم على كلامه، وأن «البلوكشين حقيقي»، وصرح البنك في شهر أكتوبر 2017 بتطوير نظمها الداخلية لتكون معتمدة على تكنولوجيا البلوكشين، وإن كنا نقلق بشأن أزمة جديدة، فإن أزمة 2008 اكبرها وأكثرها تدميراً للاقتصاد، والمسؤولين عنها هما البنوك والجهات الرسمية مثل Lehman Brothers وGoldman Sachs، وبنك أمريكا المركزي US Federal Reserve، فهل فعلاً نعتمد عليهم بأن يحذرونا من أزمة بعد ما قاله رئيس البنك المركزي الأمريكي، بن برنانكي، في نهاية عام 2007 ان «الاقتصاد سالم.. وليس هناك سبب للقلق.. وفي سنة 2008 سوف نرى نمواً اقتصاديا»؟

بداية اقتصاد جديد
من الواضح أن اسعار الكثير من العملات الرقمية مبالغ فيها، لكن هذه بداية اقتصاد جديد، وإن كان الوضع الحالي فقاعة، فبعد انفجارها سوف نرى العملات الرقمية القيمة تسيطر وتجعل الطريق سالكاً للعملات الرقمية التي ستظهر بعد ذلك.
إن الكثير من العملات الرقمية سوف تنتج في المستقبل، والغالب سيفشل، ولا يكون له أي قيمة، ولكن البعض الآخر سوف يغير منظورنا عن المال تماماً، وحتى العملات التي نستخدمها اليوم بالتأكيد سوف تتحول إلى عملات رقمية، كما حدث مع حكومة الإمارات emCash، وما صرحت به بنوك الصين وإنكلترا المركزية، عملة البتكوين تستطيع أن تبقى كمعيار للعملات الرقمية، وكمخزون للقيمة، وكعملة احتياطية مضمونة للاقتصاد الجديد. أنا لا أصرح بأن عملة البتكوين ستبقى بالتأكيد، انما اقول انه بعد دراستها ودراسة تكنولوجيتها وتصميمها يسهل علينا تصوّر هذه الاحتمالية، فإن لم تكن عملة البتكوين، فستأتي عملة أو عملات غيرها لتحرك هذا الاقتصاد الجديد، ولا ننسى ان عملة البتكوين هي البداية فقط، ففوائد وتطبيق البلوكشين ليس لها نهاية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شركة تنظيف
إغلاق